قتيلُ الوردة وآخِرُ الباطنيّين.. كيف نقرأ ريلكه اليوم؟

27 ديسمبر 2022
ريلكه في بورتريه لـ ليونيد باسترناك (Getty)
+ الخط -

جاحظَ العينين، شاخص البصر، بين ذراعيِّ طبيبه، مات ريلكه في الشهر ذاته الذي وُلِد فيه. مات الشاعر الذي أفنى حياته القصيرة (51 عاماً) وهو يسعى لكتابة قصيدة "لا تعبِّر عن المشاعر، وإنَّما عن الأشياء التي يشعر بها"، فَـ"القصائد ليست مشاعر، بكلِّ بساطة، كما يظنُّ الناس... إنَّها تجارب". مات "أعظم شاعر غنائي في الألمانية منذ غوته وهاينه" وهو يصعد إلى "شعريَّة الأشياء"، تائقاً، بوصفه "فنَّاناً" في المقام الأوَّل والأخير ــ على نقيض الرومانتيكيِّين تماماً ــ، إلى تحقيق "قصيدة الشَّيء" (Dinggedicht)؛ القصيدة التي تُعبِّر عن "الأنا الجوَّانيَّة" للشيء الذي يركِّز الشاعرُ اهتمامَه عليه في لحظة معيَّنة، "فتلتصق اللُّغة بالشيء حتَّى يكاد ينطق"، على حدِّ قول الشاعر الأميركي روبرت بلاي. مات الشاعر الذي أضجرهُ العالَم المحيط به، فانكفأ على نفسه، مستبطناً أناهُ الجوَّانيَّة، مستبصراً كُنْهَ الوجود، وجوده هُوَ في حدِّ ذاته، وعلاقة هذا الوجود بالأشياء التي تدور في فلكه: "أنا وحيدٌ، شديدُ الوحدةِ، في هذا العالم/ ولكنَّني لستُ وحيداً بما يكفي".

وفي الوقت الذي مات فيه ريلكه، في عام 1926، كان "الجميع يقرأون أشعاره"، كما تقول الناقدة البريطانية لزلي تشامبرلن (1951)، في كتابها الجديد "ريلكه: الإنسان الباطنيُّ الأخير" (Rilke: The Last Inward Man)، الصادر في آب/ أغسطس الماضي لدى "مطبعة بوشكين"، وهو الثاني ضمن سلسلة تأمُّلاتها في الأدب المكتوب باللغة الألمانية، بعد كتاب "نيتشه في تورين: نهاية المستقبل"، الصادر هذا العام، أيضاً، وعن الدَّار ذاتها كذلك. وبعبارة "الجميع" تقصد تشامبرلن طبقةَ قرَّاء تمتدُّ من "الروائية الإنكليزية ڤرجينيا وولف وحتَّى الناقد الفني الأميركي المستقبلي ماير شابيرو، الذي قام برحلته الأولى إلى أوروبا حاملاً في جعبته نسخة من أشعار ريلكه؛ ثُمَّ تمتدُّ لتشمل الروائي النمساوي الحداثي روبرت موزيل، الذي كان من أشدِّ المعجبين بريلكه، مُعلِياً مِن قَدْر "ثراء لغته" في خطاب تذكاريٍّ طويل ألقاه في عام 1927، وصولاً إلى فرنسا، حيث التقى ريلكه بأندريه جيد، "الروائي مرهف الحسّ العالق بين الباطنية الدينية ولا أخلاقيَّة نيتشه" وبول ڤاليري، "الشاعر الحداثي ذي التعقيد المماثل"، اللذَيْن وضعا ريلكه في منزلة فنيَّة رفيعة.

ولا تنسى تشامبرلن تذكيرنا بأنَّ أعمال ريلكه فقدت بريق حضورها في الدوائر الناطقة بالألمانية، بعد مرور عشر سنوات على وفاته، حين اندلعت الحرب العالمية الثانية، حيث فضَّلت الطليعة النقدية الألمانية مخيّلةَ كافكا، "الشاعر الذي يكتب نوعاً جديداً من النثر"، وبيرتولت بريخت، "الشاعر الذي أراد تغيير العالم بتثوير المسرح الدرامي".

تغدو معه القصيدة كوناً يحتوي الأشياء كلَّها في داخله

ولكن، كيف نقرأ ريلكه اليوم؟ سؤال محوريّ تطرحه تشامبرلن في الفصل الأول من كتابها هذا. وجاهة السؤال عن "الكيفيَّة" التي نقرأ بها أعمال الشاعر النمساوي، المولود في براغ، مدينة كافكا، في عام 1875 ــ وليس عن الأسباب الموجبة لهذه القراءة، على سبيل المثال ــ نابعةٌ في الأصل من الدهشة التي يثيرها الافتراض الكامن في عنوان الكتاب، فنحن "لا نستطيع أن نطلق على واحد من أعظم الشعراء الأوروبيِّين في القرن العشرين عبارةَ آخر الباطنيِّين إلَّا من الناحية المجازية"، كما تقول تشامبرلن في دراستها هذه، لأنَّ "عصر النزعة الباطنيَّة (أو "الاستبطانيَّة") وازدهار الثقافات التي كانت فردانيَّة وتأمُّليَّة في الغرب، قد ولَّى"، بالرَّغم من أنَّ "البعض سوف يظلُّ، ربَّما في مراحل مختلفة من حياته، منجذباً إلى كلِّ ما هو باطني/صوفي/روحاني، وميتافيزيقي/غيبيّ".

ولا يخفى علينا أنَّ عبارة "الإنسان الأخير" (Last Man)، التي تستخدمها تشامبرلن في صياغة السؤال، هي، في حدِّ ذاتها، عبارةٌ صاغها الفيلسوف والشاعر الألماني فريدريش نيتشه (1844 - 1900) في كتابه "هكذا تكلَّم زرادشت" (1883) كي يصف نقيضَ الإنسان الأعلى، الرجل الخارق، الذي يبشِّر بظهوره الوشيك زرادشت. فإذا كان "الإنسان الأخير"، عند نيتشه، هو الذي "قد سئم الحياة، ولا يجد فيها أيَّ معنى، يتجنَّب المخاطر، ويسعى دائماً إلى الشعور بالراحة والأمان"، فإنَّ ريلكه، بوصفه "الإنسان الباطنيَّ الأخير"، لا يحيد في سلوك حياته اليومي عن هذه الصفات جميعاً.

الصورة
غلاف "ريلكه: الإنسان الباطنيُّ الأخير"
غلاف "ريلكه: الإنسان الباطنيُّ الأخير" لـ لزلي تشامبرلن

وهذه "الكيفيَّة" التي تتحدَّث عنها تشامبرلن، في عصرنا الجديد هذا، كامنةٌ في "الكيفيَّة التي استجاب بها ريلكه إلى سلسلة البيئات التي عايشها على وجه التَّحديد". إذن، هي كيفيَّة نابعة من "معايشة" حياتيَّة للأشياء في كُنْه وجودها، في حياتها الجوَّانية، لا تتأتَّى إلَّا لشاعر عظيم. فقد كان يستمتع بالطبيعة والأعمال الفنيَّة في كلّ مكان ينوجد فيه، مثلما تواصل تشامبرلن حديثها، وعاش بين الحيوانات والطيور والأشجار، وتحت السماوات المظلمة والمشرقة. كانت للريح والنجوم والتراب حضوراتٌ قويّة في حياته، ولكنَّ حضور البشر كان نادراً نسبيّاً. كان البشر، بالنسبة إليه غرباء، من مسافة بعيدة، في معظم الوقت، على الرغم من أنَّهُ قد عَرف بضع أُناس معرفة جيَّدة، وتأمَّلهم، وتذكّرهم، في حفنة من القصائد الخاصة. كما عشق، في تلك الأثناء، الألوان، والكاتدرائيات، والتماثل الإغريقية، ودوَّامات الخيول التي يركبها الأطفال، والزهور.

ثُمَّ سرعان ما تنتقل هذه "المعايشة" إلى القصيدة: تغدو القصيدة البيئة الجديدة لهذه الأشياء. تغدو القصيدة، في حدِّ ذاتها، هي الوجود الشعري؛ الكون الشعري الذي يحتوي الأشياء كلَّها في داخله. تذكر تشامبرلن كيف عملت اثنتان من قِصار قصائد ريلكه على استحضار زهرة الأرطاسيا (أو: زهرة كوب الماء)، إذ كان الشاعر مفتوناً، على شاكلة ڤان غوغ، بأشكال الحياة التي كانت جميلة، ذات مرَّة ــ لا سيَّما براعم الأزهار ــ قبل أن تفقد بريقها. هُنَا يغدو الشاعر هو الفنَّان/ الصَّانع الذي ينفخ نسمة الحياة في الشيء بعد موته. تغدو القصيدة هي الحياة الأخرى التي يعيش فيها الشيء حياتَه الآخرة. ولكنْ لا بُدَّ لهذه "المعايشة" مِن عزلة. والعزلة حاضرة في حياة ريلكه حضورَ القصيدة نفسها. فلقد أمضى شهوراً من العزلة، المحاطة بالرعاية، في بعض بيوت العائلات النبيلة حين كانت الأرستقراطية الأوربيَّة في طور تدهورها وتفسُّخها.

حضرت الريح والنجوم والأشجار في حياته أكثر من البشر

وسواءً قرأنا أعمال ريلكه في أصلها الألمانيِّ ــ كما تقول تشامبرلن ــ أو قرأنا "ريلكه الإنكليزي، أو ريلكه الفرنسي، أو ريلكه الياباني، أو قرأناه بلغة بريل (لغة الأشخاص المكفوفين)، فإنه سوف يظلّ شاعراً عظيماً، بسبب موسيقى لغته وانشغالاته التي تربطه بالفنَّانين الآخرين، وتربطه بعصره". لا تتغيَّر عظمة أشعار ريلكه، إذن، في الترجمة! ومَردُّ هذه العظمة عائد، بحسب تشامبرلن، إلى "محاولته العثور على حساسية جديدة للقرن العشرين، في الوقت الذي كان فيه نمطٌ معيَّن من الفلسفة ينظر إلى سؤال معنى الحياة بوصفه سؤالاً ساذجاً". فقصائد ريلكه "تُعنَى بالجندر وحياتنا الجنسية، وإحساسنا بما يتوجّب علينا أن نفعله بحيواتنا، وتُصوِّر لنا تلك الصلة التي تربطنا بالحيوانات فتجلب لنا السعادة. وتُعنَى، أيضاً، بأهمّية الطفولة، والجاذبية التي تتمتع بها الأشياء المحسوسة التي نصنعها ونشتريها ونختار العيش بينها، والمناظر الطبيعية التي نستجيب إليها، والكتب التي نقرأها والرسومات التي نعيش بصحبتها. فلا شيء تحت تحديقة ريلكه يستطيع مقاومة تحوُّله إلى ملمح من ملاح كون رائع يحيط بنا في عالم قد يتركنا، بخلاف ذلك، قلقين وخائفين".

غالباً ما يُنظَر إلى ريكله بوصفه "مرشداً روحانيّاً" في الثقافة الغربيَّة الرائجة (بحسب كاثلين كومار في مقالتها "إعادة التفكير في 'مراثي دوينو' لريلكه في نهاية الألفيَّة"، المنشورة في عام 2001)؛ وصرّح الشاعر الأميركي جيه. دي. ماكلاتشي، في مقالة له نُشرت في مجلة "شعر" عام 2004، بأنَّ "شعر ريلكه يُقرَأ في الولايات المتحدة بوصفه أدبَ حكمةٍ وغالباً ما يُقارن بشعر جلال الدين الرومي وكتابات جبران خليل جبران". لقد منح الشاعر النمساوي القرَّاءَ الأميركيِّين، وفقَ ما تقول تشامبرلن، "منهجاً نقديّاً مؤثِّراً لطرائق الحياة الصناعية، والفضاء الذي تدور فيه، وإلَّا لَما كانوا قادرين في غالب الأحيان على احتمال تلك الحياة. فلقد قدَّم ريلكه، وما زال يقدِّم، الشِّعرَ بوصفه قادراً على مساعدة أيِّ واحد منَّا، ومساعدتنا جميعًا، على الصمود في وجه الهجمة الماديَّة التكنولوجيَّة. إنَّهُ حصنٌ علماني، روحانيٌّ ولكن ليس دينيّاً، وهو شيء نادر، على نحو متزايد، في هذه الأيام".

الصورة
غلاف الطبعة الجديدة من أوّل ترجمة إنكليزية لـ"مراثي دوينو"
غلاف النسخة الجديدة، لدى "مطبعة بوشكين"، من أوّل ترجمة إنكليزية لـ"مراثي دوينو"

ولهذا لا تتوقَّف ترجمة أعمال ريلكه إلى الإنكليزية البتَّة، فهو ــ بفضل هذه السمة التي ذكرتها تشامبرلن، على وجه الخصوص ــ "واحدٌ من أكثر الشعراء مبيعًا في الولايات المتحدة"، وفقَ زعم كاثلين كومار، أستاذة الأدب المقارن في "جامعة كاليفورنيا"، في مقالتها "ريلكه في أميركا" (2001). نُشِرت أوَّل ترجمة إنكليزية لديوان "مراثي دوينو" (Duineser Elegien)، في عام 1931 من طرف دار "هوغارت" التي أسَّستها ڤرجينيا وولف (انتهى ريلكه من الكتاب فعليًّا في عام 1922، وهو العام ذاته الذي شهد نشر تحفتين أدبيَّتين خالدتَيْن: "عوليس" جيمس جويس، و"الأرض الخراب" لتي. إس. إليوت). وفي مطلع العام الحالي، 2022، أعادت "مطبعة بوشكين" نشرَ هذه الترجمة بعينها، في طبعة فاخرة، ليس بوصفها "وثيقة تاريخيَّة مذهلة فحسب" (مضى على ظهورها 90 عامًا) وإنَّما "لروعة الترجمة التي صِيغَت شِعراً مُرسَلاً" أيضاً، مع مقدِّمة جديدة وضعتها لزلي تشامبرلن.

وظهرت، منذ عام 2014 فحسب، 24 ترجمة مختلفة لديوان "مراثي دوينو" (1923) وحده، بحسب ما يقوله مايكل وود، في مقالته "ترجمة ريلكه"، المنشورة في مجلة "الأدب العالمي اليوم". ونُشرت ترجمة جديدة لهذا الديوان، بمراثيه العشر، في ربيع هذا العام، بتوقيع الشاعرة الأسترالية أليسن كروغن (1961)، رفقةَ تقدمة خاصة كتبها الشاعر الأسترالي المرموق جون كِنسلَّا (1963). ميزة هذه الترجمة أنَّ كروغن قضت في صناعتها نحو 20 عامًا، مثلما تقول هي نفسُها في الخاتمة ــ وهو ضعف عدد السِّنين التي قضاه ريلكه في صنع هذا الكتاب ــ إلى الحدِّ الذي دفع كنسلَّا إلى القول في مقدِّمته إنَّ "كروغن تعيش في الجمال الجامح لهذه المرثيَّات فتجعلها تتوَّهج في الترجمة".

الصورة
أليسن كروغن
ترجمة أليسن كروغن لـ"مراثي دوينو"

ولم يمنع البتَّةَ نشرُ ترجمةٍ جديدة لهذا الديوان ظهورَ ترجمةٍ أخرى له في ربيع العام الماضي أنجزها ألفرد كورن، فالحياة الثقافية في الغرب تحتمل مثل هذا الأمر بكلِّ أريحيَّة (على خلاف الساحة الثقافية العربية التي لا تتقبّل مثل هذه الأمور بسهولة. أذكرُ، على سبيل مثال آخر، أن أربع ترجمات إنكليزية مختلفة لـ"كتاب القلق" لفرناندو بسُوَّا نُشِرت دفعة واحدة في عام واحد!).

أمَّا الترجمة الجديدة الأخرى، فكُرِّستْ لسونيتات ريلكه، أنجزها الأميركي ريك أنطوني فورتاك، وصدرت عن "مطبعة القديس أوغسطين" في نهاية شهر آذار/ مارس الماضي، ضامَّةً، بين دفّتيها، ديوان "سونيتات إلى أورفيوس" (Die Sonette an Orpheus، الصادر عام 1923 للمرّة الأولى) بسونيتاته الخمس والخمسين ــ التي نظمها ريلكه في ثلاثة أسابيع، في عام 1922، واصفاً تلك الفترة بأنَّها كانت "عاصفة عاتية من الإبداع" ــ، فضلاً عن السونيتات الأخرى التي نظمها في حياته، خاصة تلك التي نُشرت في كتابه "قصائد جديدة" (Neue Gedichte. صدر الجزء الأوَّل منه في 1907، والثاني في 1908).

والكتاب الجديد الآخر الذي تناول أعمال ريلكه هو "يدا ريلكه: مقالة في الرِّقَّة" (Rilke’s Hands: An Essay on Gentleness)، الذي ظهر لدى "روتليدج" في تشرين الثاني/ نوڤمبر الماضي 2022، بتوقيع السويسري هارولد تشڤايتسر، أستاذ الشِّعر والنظرية الأدبية في "جامعة بَكْنِل" الأميركية. والكتاب عبارة عن "قراءة تأمُّليَّة" لإحدى وستِّين شذرة/ قولًا مأثوراً متعلِّقة بالأشياء التي تناولها ريلكه في قصائده، ومدى هشاشة هذه الأشياء (كالزهور المقطوفة والموضوعة، برقَّةٍ، على طاولة الحديقة وهي "تتعافى من موتها الذي بدأ للتوِّ"، كما يرد في أحد مقاطع "سونيتات إلى أورفيوس"، على سبيل المثال) وتحويل هذه القراءات/ التأمُّلات إلى "مفاتيح لغويَّة" قادرة على تفسير شعر ريلكه، على الشاكلة التي قد يعزف بها الموسيقيُّ مقطوعة لموسيقيٍّ عظيم، فتتحوَّل اللغة إلى نشيد لا ينتهي.

الصورة
"سونيتات راينر ماريا ريلكه" بترجمة ريك أنطوني فورتاك
"سونيتات راينر ماريا ريلكه" بترجمة ريك أنطوني فورتاك

لم يكُن ريلكه مخلصاً في حياته إلَّا إلى شيء واحد فقط: القصيدة؛ قصيدته هُوَ؛ فنّه هُوَ. وهذا "الإخلاص" هو الذي، ربَّما، دفع روبرت موزيل إلى القول إنَّ ريلكه "جعل القصيدة الألمانيَّة مُتقنةً وكاملة لأوَّل مرَّة" في تاريخ وجودها. وأمَّا في حياته الشخصية (الضَّجِرة، الساعية دوماً إلى الراحة، ولو على حساب الآخرين وعذاباتهم، على شاكلة "الإنسان الأخير")، فقد كان "أكثر شخص مثير للاشمئزاز في تاريخ الأدب"، بحسب الوصف الذي أطلقه عليه الناقد الأميركي مايكل ديردا (في مقالته "شيطان أم ملاك" التي نشرها في صحيفة "واشنطن بوست"، بتاريخ 31 آذار/ مارس 1996، والتي يتناول فيها كتاب السيرة الضخم الذي أصدره رالف فريدمن، في العام ذاته، عن حياة ريلكه) ذاكراً، بالحرف الواحد، أنَّ ريلكه "الذي طالما عُدَّ أحدَ قدِّيسي الفنِّ الحديث، والإنسانَ الذي عاش وحيداً في عزلة روحيَّة دائمة، والذي صنع من نفسه قيثارةً هوائيَّة حسَّاسة تهتزُّ لأدنى رياح الشِّعر حين تهبُّ"، كان في الواقع شخصاً "متحجِّرَ الفؤاد، عديم الرحمة، ليس تجاه الآخرين فحسب، وإنَّما تجاه نفسه أيضًا. وكان دائمَ التزلُّف إلى الأرستقراطيِّين، بلا خجل".

الشاعر هو الذي ينفخ نسمة الحياة في الشيء بعد موته

وليس هذا فحسب ــ والكلام لديردا، بالطبع، نقلًا عن كتاب فريدمن ــ، فقد كان ريلكه "الغائر العينَيْن، الذي غالباً ما تحفل أشعاره بالملائكة والأبدان اليونانية والموت، متكبِّراً، أنانيّاً، وجباناً، ومصَّاص دماء على الصَّعيد النَّفسيِّ، وكثير التذمُّر والشكوى مثل طفل صغير. لقد رفض الذهاب لرؤية والده المحتضر، وكان الزوجَ الذي استغلّ زوجته ثم هجرها، والأبَ الذي لم يرَ ابنته في حياته إلَّا لماماً، حتَّى إنَّه سرق الأموال من وديعتها الخاصة بالتعليم، ليدفع تكاليف إقامته في غرف فنادق الدرجة الأولى. ناهيك عن أنَّه كان لا يكفُّ عن إغواء زوجات الآخرين، وكان تجسيداً حيّاً لفكرة الفنان مشبوب العاطفة الذي يعدُّ نفسَه فوق البشر العاديِّين لأنَّه مرهف الحسِّ، وفي غاية الحساسية، لدرجة أنَّ نسمة عابرة أو برداً مفاجئاً قد يجرح بسهولة برعم نفسه الهشِّ الرقيق". وسبق لريلكه، في صباه، "أنْ سمح لخطيبته بإنفاق مدِّخراتها على نشر كتابه الأول، ثُمَّ أهدى القصائد إلى إحدى البارونات، ثُمَّ هجر الفتاة الشابة المصعوقة".

ولكنَّ ريلكه، بالرغم من هذه "الوضاعة" - إن صحّت - على الصَّعيد الشخصيِّ، يظلُّ شاعراً عظيماً "وسَّع حدود الشعر باستخداماته الجديدة للنحو والصور المجازية وتبنِّي فلسفة جمالية رفضت التعاليم المسيحية المتوارثة، والذي سعى إلى التَّوفيق بين الجمال والمعاناة، وبين الحياة والموت"، ففي الوقت الذي "عثر فيه الآخرون على مبدأ موحَّد لأنفسهم في الدين أو الأخلاقيَّة أو البحث عن الحقيقة، عثر ريلكه على مبدأه في البحث عن الانطباعات وأمل أن تتحول هذه الانطباعات إلى شعر". 

الصورة
"يدا ريلكه: مقالة في الرِّقَّة" لـ هارولد تشڤايتسر
"يدا ريلكه: مقالة في الرِّقَّة" لـ هارولد تشڤايتسر

ولا يمكن لشاعر من هذه "الطِّينة" أن يكون موته "عاديّاً"، وهو الذي ناجى "ربَّهُ" في "كتاب السَّاعات" (Das Stundenbuch)، قائلًا: "اِمنحني يا إلهي موتيَ الخاصَّ/ الموتَ الذي ينبعُ من حياتي". وهكذا كان. فقد مات "موتًا" نابعاً من حياته هُوَ، بكل ما في الكلمة من معنى، "الموتَ العظيم الذي يحمله في داخله" ــ مثل ما يقول في القصيدة ذاتها ــ؛ الموتَ الذي هُوَ "الثَّمرةُ التي يغلِّفها كلُّ شيءٍ"، لدرجة أنَّه قد خطَّ العبارة التي أوصى بأن تُنقَش على شاهدة قبره: "أيَّتها الوردةُ، أيُّها التَّناقضُ الخالصُ، يا رغبةَ/ ألَّا تكوني نومَ أحدٍ تحتَ جفونٍ كثيرة"، حتِّى قِيل إنَّه قد تنبَّأ في هذَيْن البيتَيْن بالطريقة الذي سوف يموت فيها. ذلك أنه قد طاب المقام بريلكه، في السنوات الأخيرة من حياته، في قصر موزو، بسويسرا. وفي أثناء إقامته تلك، زارته، في عام 1926 (بحسب ما يذكر أكثر من مرجع تاريخي)، نعمت علوي بيه (مواليد القاهرة)، العارضة ذائعة الصِّيت التي وقفت أمام عدسة مان راي، وأوَّل مشرقيَّة تُنشَر صورها في عام 1929على صفحات "ڤوغ"، المجلّة الأميركية الشهيرة المتخصصة في الأزياء والأناقة.

كانت نعمت، في تلك الأوقات، تعيش منفصلة عن زوجها الثريِّ المصري عزيز بيه ــ الذي تزوَّجته، زواجاً تقليديّاً، حين كانت في الثامنة عشرة من عمرها ــ بعد أن اشتدَّ به المرض (يحاول الكاتب تذكيرنا بتصرُّفات ريلكه "الوضيعة" في التخلِّي عن أقرب المقرَّبين إليه!). فُتِن ريلكه، منذ النظرة الأولى، بجمال نعمت الأخَّاذ، وشخصيَّتها الأرستقراطيَّة الجذَّابة، وبهرتْه ثقافتُها واسعة الاطّلاع على الشعر والفلسفة وعلم الكلام. ولكي يحتفي بهذه الزيارة، ذهب (وهو الذي كان قد شُخِّص بمرض اللوكيميا قبل بضعة أسابيع) إلى الحديقة ليلتقط بعض الورود. وفي أثناء ذلك، وخزته شوكةٌ، فانتشر الالتهاب الذي أصاب ذلك الجرح الصغير في ذراعه كلِّها، فتورَّمت في فترة وجيزة، ثُمَّ سرعان ما سرى الالتهاب في جسده كلِّه حتَّى مات.
مات الشاعر الذي كانت حياته نشيداً لا يكتمل أبداً:

"عشتُ حياتي في دوائرَ تتَّسعُ
دوائرَ فوقَ الأرضِ والسماءِ تنتشرُ.
قد لا أُكمِلُ الدَّائرةَ الأخيرةَ أبداً،
ولكنَّني سوفَ أُحاوِلُ.
حولَ الربِّ أدورُ، حولَ البرجِ الذي كانَ في البَدْءِ،
منذُ ألفِ عامٍ أدورُ،
وما زلتُ لا أعرفُ إنْ كنتُ صقراً، أمْ عاصفةً،
أمْ نشيداً لا يكتملُ".
 

* شاعر ومترجم أردني فلسطيني

المساهمون