في سؤال ما السلفيّة: استعارة فرنسية لإجابة عزمي بشارة

27 يوليو 2021
عزمي بشارة
+ الخط -

يشعر مُتابع الخِطاب الفرنسيّ، سواء أكان رسميًّا أم أكاديميّاً، عن الإسلام المعاصر بأنّه ظلّ حبيسَ تصوّراتٍ ناجزة يعادُ إنتاجُها آليّاً، وهي التي اعتمدت على منظورٍ معرفيّ وريث الاستشراق، لم يَستفد من نتائج حقل الإسلاميّات الحديثة، وكأنّه وهو يتصدّى لقضايا الإسلام المُعاصر يتعامل مع مادة ثابتة، لا يعبرها خطّ الزمن. فقليلاً ما نجد في المدوّنة المعرفيّة الفرنسية ما يُشبع طموحات القارئ لفَهم متين، دون إخلال أو تعقيد، للظواهر الكبرى التي تعتمل في مجتمعاتنا العربية.

ويمثّل استشعار هذا النقص سببًا في توجّه الفرنسيين إلى الترجمة، وفي هذا السياق يمكن أن ننزّل النسخة الفرنسية من كتاب "في الإجابة عن سؤال: ما السّلفيّة؟" للمفكّر العربي عزمي بشارة، وقد صدرت منذ بضعة أسابيع بترجمة ماريان بابو عن دار "أوريون". تحمل النسخة الفرنسية تحويراً طفيفاً في العنوان، إذ جاءت موسومة بـ "Qu’est-ce que le salafisme" (ما هي السلفية؟) وقد مهّد لها باحثان فرنسيّان هما هنري لورانس وستيفان لاكروا، وهما مِن أشهر مَن تَخصّص في دراسة المجتمعات العربيّة المعاصرة والحركات والتحوّلات السياسيّة فيها.

في مقدّمته، يعرّف لورانس القارئ الفرنسي بأهمّ محطات مسار عَزمي بشارة الثقافي والسياسي وصولاً إلى تأسيسه لـ"المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" الذي صدر عنه الكتاب في صيغته العربيّة الأولى عام 2018. ثم تخلّصت المقدّمة إلى بيان موضوع الكتاب وملاحظة أنّ مفردة "السلفية" التي باتت جزءاً من رصيد اللغة الفرنسيّة، تَستخدمها الطبقة السياسيّة ووسائل الإعلام وحتّى عامة الناس كيفما اتّفق. فلم يتجشّم أحدٌ عَناءَ تفكيك معانيها والإحاطة بمَدلولاتها المعقّدة لا سيّما سبر مَراجِعها الفقهيّة واللاهوتيّة.

عمل يتجاوز أهدافه المعرفيّة إلى تأصيل القراءات النقدية

ولذلك، أشاد لورانس بأهمية المنهج التفكيكي الذي اتبعه بشارة، تفنيداً للرؤية الجوهرانية Essentialiste التي تَعرض للسلفيّة ولِسائر ظواهر الفكر العربي- الإسلامي ومفاهيمه، كما لو كانت تسير في خطّ واحدٍ، أطلقَ عليه استعارة "خطّ مترو" يَصل بين قاطرات أحمد بن حنبل، وابن تيمية، ومحمد بن عبد الوهاب، والسلفيّة المعاصرة. هكذا، بجرّة قلم واحدة، كما لو كان مفهوماً يتعالى على التاريخ ولا ينبثق من صراعاته السياسيّة التي لا تُفهم إلّا على ضوء سياقات التاريخ وتأثيرات الخارج، وجُلّها عِدائيّ.

ومن جهته، ركّز ستيفان لاكروا على البُعد المنهجي الذي يسم تحليلات عزمي بشارة، إذ تمزج مقاربتُه، في رشاقةٍ، بين المقاربات من أجل الوصول إلى رؤية تستند إلى الفلسفة السياسيّة، وتشير إلى تعدديّة المَصادر الإسلاميّة. فقد استحضرَ بشارة مرجعيّات السلفيّة الفكريّة وكتاباتها التنظيريّة. لكنْ، قرأها لا كفكرٍ مُتعالٍ، بل كجواب محايثٍ Contingent على منطق التاريخ ومتغيّراته. إلّا أنّ هذه المرجعيات صعبة الفهم بالنسبة إلى القارئ الفرنسي، وهنا تكمن أهمية الترجمة ودورها: فلئن كان النصُّ العربي قد استعان بمصطلحات وشخصيّات ومفاهيم أَلِفها القارئ العربي وشكَّلت لديه أسماء مَعهودة، بسبب الإعلام والتحاليل السياسيّة وحتى خطابات المساجد، فإنّها تظلّ في حُكم المجهول بالنسبة إلى الجمهور الفرنسي.

وهكذا، تمثّل ترجمة هذا الكتاب مناسبة لإضاءة فرنسيّة موسّعة على مُساهمات عزمي بشارة، بما هي اشتباك مع القضايا التي هزّت العالم العربي في العقود الأخيرة. وسيفهم القارئ الفرنسي بمرور الصفحات أنّ هذه القضايا تُدرس بمنهجيات ومفاهيمَ أصيلة في الفكر العربي، لكن يكاد الغرب يجهلها ويغفل عمّا يدور خلالها من منافحةٍ واستدلال، ذلك أنّ المصدر الوحيد لاطلاع الجمهور الفرنسيّ على شبكة قراءة أحداث الوطن العربي ورهاناته الجيوسياسية هو ما يقوله، بالفرنسيّة، "المترجِمون المُخوَّلون" أي: هؤلاء الباحثون الذين يَقولون ما يودّ الغرب سماعَه، وهم يُسمّون الأشياءَ والحوادثَ كما ينبغي عليهم تسميتها حسب الخطابات الرسميّة والإعلامية. ولا يُخوّل لهم إلّا أنّ يقولوا ما تَرضى عنه الأجهزة السلطويّة الظاهرة، فضلاً عن الرّقابة الداخليّة المستبطَنَة. 

لكلّ ذلك، تأتي ترجمة هذا الكتاب إلى اللسان الفرنسي لتسد ثلمةً وسيعة، وتُسمِعَ جمهورَها ما يتردّد في دوائر الأبحاث العربيّة من أصواتٍ أخرى مباينة، ولمَ لا لِتمدّه بالنصوص والمرجعيّات القديمة التي تُحيل عليها الحركات السلفيّة بكلّ أطيافها ومَذاهبها من أجل فهم أعمق لها، إذ لا يمكن الإلمام بالأصول النظريّة ما لم تُنقل إليه حتى وإن كانت عَسِرَةً وَعرة. ونذكر هنا النقد اللاذع الذي وَجهه عزمي بشارة لمعارضي الاستشراق التقليدي من بين المُحدَثين، ممن سبق لهم العمل على النصوص القديمة، مثل هنري لاوست (1921-1996) الذي تخصّص في فكر ابن تيمية. فاقتصروا، في ضربٍ من التطرّف، على الملاحظة الميدانية.

إضاءة فرنسيّة على اشتباك بشارة مع قضايا العالم العربي

وينقل الكتاب أيضاً تلك التحليلات التي أجراها، ولعُقود، مفكرون عرب آخرون مثل فَهمي جدعان ومحمد عابد الجابري وعزيز العظمة، وأثّرت في المشهد الثقافي العربيّ، لكنّ مَعرفة الفرنسيين بهم شبه منعدمة. وهنا يكمن الإشكال، إذ لا يخاطب الفكرُ الفرنسيّ إلّا ذاتَه، ولا يُنصِت إلّا لأصداء تَسمياته وتَعريفاتِه، وغالبها منقطع عن الواقع، لا يخبر عنه ولا يُعرّف به، باستثناء القليل النادر الذي جَمع بين مَعرفة الميدان المعاصر وإتقان النّصوص المرجعيةّ. ويكفي مثلاً على ذلك أن نُتابع ما قيل عن حركة طالبان منذ ثلاثة عقود لنرى كيف تُختزل أعمالها وأفكارها، في عملية جَلد جرت أمام الملأ.

وهكذا، لم يكن صدور هذا الكتاب مجرّد نَقلٍ لـ"محاولة" فكريّة بما فيها من نَبرة ومواقف وتحليلاتٍ، وإنّما هو إسهامٌ في النقاشات التي تستحقّ أن تخرج من "عنق زجاجة التقليد"، والاستعارة للغزالي، حتى ترى العيون الفرنسيّة ما يَجري في العالم العربيّ بعيون أصيلة، بعيداً عن التوصيفات الجاهزة والتحليلات المبتسرة، وكلّها مكرّرة عبر آلة إعلاميّة وأكاديميّة لا تصنع تحليلات معمقة تربط بين النصوص والبحث الميداني وإنّما تصنع مضموناً استهلاكيّاً وحيداً نمطيّاً، تَحكمه صراعات الأحزاب والحسابات الانتخابيّة، حيث تتبادل الأدوار بين القراءة الجامعيّة والإثارة الصحافيّة إلى جانب الخطاب السياسوي الضيق، مما يجعل الكلام عن العالم العربي مجرد ملء فراغ بما يُرضي المستهلك. ونأمل أن تشيع هذه الترجمة حتى يصبح الخطاب عنّا، لدى المحللين الفرنسيين أقرب إلى التحليل وأبعد عن الدغمائيّة.

ما السلفية

ولا تفوتنا الإشادة بجماليّة النص بعدما عبر قناةَ التّرجمة، فقد نجحت ماريان بابو بدقة عباراتها في الإبقاء على الكثافة الفكريّة التي تميّز الكتاب وتمكنت من إظهار التشابك بين مبادئ الفكر الدينيّ في كتابات ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب، مع ما أحاط بهما من متغيرات ظرفيّة ظهرت في مُجتمعات العصر الوسيط، وذلك في فرنسيّة سلسة واضحة، تكشف تعقد ظواهر التاريخ العربي، قديمه والمعاصر، وتدفع القارئ إلى إدراك أنّ تعاريج السّلفية ليست مما يختزل في الجوهرانيّ من المقاربات. 

ولذلك، يبقى هذا الكتاب بترجمته الفرنسيّة عملاً يمكن أن يتجاوز أهدافه المعرفيّة بتقديم جهاز مفاهيميّ حول قضيّة تشغل العالم العربي إلى تأصيل القراءات النقدية وهي تتناول ظاهرة السلفية. ولنا، أيضاً، أن نلاحظ أنّ فرنسا ليست بعيدة عن أخطار التشدّد الديني، وبالتالي فهي في حاجة لامتلاك أدوات التحليل اللازمة لفهم السلفية، ولا يمكن ذلك دون الإجابة عن سؤال: ما هي السلفية؟


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

المساهمون