المنفى مكانٌ غير بديهي. فلا بداهة خارج الجذور. ولا عملَ للرئتين على أنفاس تربةٍ أخرى. المنفى عطْبٌ مستمرٌ في العصب، مهما جرت عمليات التكيّف والاندماج.
أعرفُ منفيين من كلِّ بقاع الأرض، مرت عليهم عقودٌ من الزمن، وما يزالون يعانون صعوباتٍ كبيرة جداً في احترام الذات. أعرفُ فلسطينيين، في كلٍّ من أوروبا والأميركتين، يقتاتون على الحنين، مع الخبز الغريب.
المنفى بقعةٌ سوداء في متن الروح. أمّا مديحه، فمفتعلٌ، مهما تحسّنت ظروف المنّفي، وعاشَ حياة طبيعيةً، غير ما عهِدَ تحت السماء الأولى، وعن كثبٍ من الطين الأول. وكمن يواظب على فقْدِ أعزاءَ ورفاق وأقرباءَ، ثمّة جُدر مكسورة في القلب، دوماً. وكأنَّ المنفى، كما الموت، فقدانٌ دائبٌ.
إحدى عشرة سنة، مرّت عليّ في منفَيين، وما زلتُ أنظرُ إلى الوراء، أكثر مما أنظرُ أمامي. هنالك أصواتٌ وأطيافٌ وأشباحٌ وأصداءٌ، تندهك، من حنايا ماضيك، دوماً. في المنفى الأول [الطفيف] بكتالونيا، كان النهارُ لها، والليل لبلادي. في بلجيكا، صار الوقتُ كلّه لها، وما الوقت فيها سوى ترجيعات لأصداء، بلا أصوات.
أهو التقدّم في العمر، وتقبُّل الجنوح إلى الغروب؟ أهو عمر الزوال، وقد عَبَر الواحد عتبته؟ أهي أهمية بيان ما هو بديهي: لا رحم سوى الرحم الأول، ولا يمكن لابن آدم أن يحوز على وطنين، مهما كان؟
* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا