مضى أكثر من عام ونصف العام على رحيل الشاعر فوزي كريم، الصديق والمعلّم. رحل بصمت، كما تغيب نجمة أو تسقط ورقة أو يعبر طيرٌ أفقاً بعيداً. فوزي الذي أمضى عمره هارباً من الضوضاء، باحثاً عن السكينة، لم يغيّر طبيعته تلك حتّى في موته. كان حين يُحدّثُكَ يُشعِرُكَ بالسكينة والهدوء، فلا يعلو صوته ولا تشعر بشحنة العاطفة والانفعال في نبرته، تُنصتُ إلى فيض أفكاره وكأنّكَ تستمعُ إلى جريان المياه في دجلة. على أنّ ذلك لا يقلّل البتّة من حماسك في الاستماع إلى حواراته المثيرة وأفكاره النيِّرة، بل يزيد من قدرتك على الاستيعاب واستقبال المواضيع التي يخوض فيها. فهو لا يبخل عليك بما في جعبته من آراء، في أيّ حديث يتطرّق إليه أو تحادثُهُ فيه.
من العام 2012 أصبح لأصيافي الإيطاليّة طعمُ أحاديث فوزي كريم وصحبتهِ البهيجة. كنّا نصطاف، رفقة الأصدقاء، على ضفاف البحر المتوسّط، في مخيّمات الاصطياف. أو نذهب لزيارة مدينة أو معرض أو متحفٍ ما، أو للمشاركة في الأمسيات الشعريّة والمناسبات الأدبيّة. وحين كنتُ أسأله إنْ كان يحبّ أنْ نذهب إلى هذه المدينة أو تلك، كان يجيبني أنْ اصنع ما شئت. كان خفيفاً قليل الاحتياجات، لا يتذمّر من شيء ولا ينزعج. يترك لي أمر اختيار الوجهة أو مكان قضاء أمسية ما، يقول: "أنا معك حيث تذهب، أنا طيّع كالماء".
فوزي الطيّع كالماء انساب من هذه الحياة بهدوء وسكينة، وترك فوضى العالم وجنونه. على أنّ من يرحل بصمتٍ عن هذا العالم يترك فيه، أوّل الأمر، ثقباً كثقب الإبرة، يزداد اتّساعاً يوماً بعد يوم، حتّى يبتلع العالم كلّه. وكلّما مرّ الوقت ازداد الشعور بالفقد، وازداد الإحساس بالغياب، وتضاعف، في المقابل، الحضور الفعليّ للغائب.
ها أنا اليوم أستذكر فوزي، لا لمناسبة ما، بل لأنّ حضوره يزداد قوّة، يوماً بعد يوم؛ حضورٌ يلغي الغياب ويترك مكانه لابتسامات فوزي وبريق الحكمة والذكاء في عينيه وصوته الدافئ. أستذكره بهذا الحوار الذي أجريته معه عام 2013، ونشرتُه مترجماً إلى الايطالية، لكنّه لم يظهر قطّ باللغة العربية.
كان فوزي كريم قد أقام معرضاً للرسم في مدينة فلورنسا أواخرَ أيار/ مايو 2013، فالتقطت فرصة وجوده، وقد كان الدوام الجامعي ما زال قائماً، ووجّهتُ له دعوة بتاريخ الثامن من حزيران/ يونيو من العام نفسه لإلقاء محاضرة في جامعة بولونيا حول الشعر العربي. وكنتُ حينها في السنة الأولى من دراسة الدكتوراه في هذه الجامعة. وعلى ضوء تلك المحاضرة كان لي معه هذا الحديث الذي تنشره "العربي الجديد" اليوم.
■ في المحاضرة التي ألقيتَها في جامعة بولونيا، تناولتَ موضوعة الأغراض الشعرية، معتبراً إياها مؤثّرةً سلباً بعلاقة الشاعر العربي بتجربته الشعرية الداخلية، وأنها كانت تعكس واقع ارتباط الشاعر بقبيلته، ببطولاته، بحروبه وبالسلطان الحاكم، فكانت النتيجة أن أصبحت للشعر أغراضٌ كالمديح والهجاء والرثاء. سؤالنا هو: كيف أثّرت هذه الأغراض سلباً في الشعر العربي؟ وهل ما تعتقده ينطبق فقط على الشعر العربي، أم أنه ينطبق أيضاً على الشعر في مختلف الحضارات؟
- أغراض الشعر بالمعنى العام لصيقة بالشعر منذ وُجد. كلّ نص شعري يرغب في التعبير عن شيء، وهذا الشيء هو غرضُه. كان الشعر، وأفترض أنه ما زال، رغبة في البوح بخبرة داخلية لدى الشاعر. وهذه الخبرة بالغة الندرة، ولذلك لا تخرج للناس، لكي توصل هذه الخبرة النادرة، إلّا بتعامل استثنائي مع اللغة؛ أي بتعامل لا يستخدم اللغة كوسيلة، كما هو الجاري مع اللغة، بل باعتبارها وسيلة وغاية في آن واحد. وهذا التعامل ليس وليد التقنية والذكاء فقط، أي وليد قدرات العقل وحده. لأنّ ندرة التجربة الشعرية الداخلية هي وليدة العاطفة والمخيّلة الإنسانية بصورة جوهرية. نحن نحتاج الشعر لأننا نحتاج إلى التواصل مع هذه التجربة الإنسانية الداخلية النادرة، التي تصير فيها اللغة/ الوسيلة التي نستخدمها كل يوم ذاتَ حضور في ذاته، لم نألفه من قبل. حضور يعكس، مثل مرآة الساحر، عوالم مجهولة من خبرة الشاعر الداخلية النادرة. هذه الخبرة ليست انعكاساً مباشراً لما يحدث في الخارج. بل هي وليدٌ هجين بالغ التعقيد لتزاوج "ذات الشاعر" مع "الموضوع" الوافد عليها من الخارج.
كثير من الشعراء اليوم يبدون أقرب إلى أعضاء أحزاب
خارج هذه الخبرة الشعرية الداخلية النادرة عادة ما نستعين بالنثر، للتعبير عن مواقفنا وأفكارنا ومشاعرنا إزاء ما يحدث في تيار الحياة، أو التاريخ. ما يحدث في هذا التيار، خارج أتون خبرة الشاعر الداخلية، هو ما أسمّيه "الأغراض". ولذا أتصوّر الشعر لا يُحسن أن يتّخذ موقفاً، بقدر ما يُحسن التساؤل والاستسلام للمتاهة.
ومحاولة الشعر للتعامل مع هذه "الأغراض" خارجنا، في تيار الحياة والتاريخ، بهذه الطريقة، إنما هو تعامل نثري، يُضعف هويته. وهذه الظاهرة أفسدت الشعر، في كل مكان، وعبر تاريخه كله.
في الشعر العربي كانت هذه الظاهرة متفوّقة منذ مراحله المبكّرة، حيث كان وسيلة لـ"الفخر"، و"المدح"، و"الهجاء": كان الوسيلة "الإعلامية" المؤثّرة للقبائل العربية في الجزيرة، ثم صار إلى جانب ذلك وسيلة لأغراض الإيمان "العقائدي"، بعد مجيء الإسلام. ثم وسيلة لأغراض الحياة الحديثة، المتمثّلة في مفاهيم وأفكار أيديولوجية عديدة.
نقطة الضعف هذه جعلت القصيدة مجرّد وسيلة "جميلة" للتعبير عن، أو إيصال، موقف أو حتى مشاعر لا تخرج من "خبرة شعرية" داخلية بقدر ما تخرج من "خبرة فنية" تعتمد الذهن والمهارة. كثير من الشعراء اليوم يبدون أقرب إلى أعضاء أحزاب، شديدي الإيمان بمفاهيمها الأيديولوجية. إن الثورة، التمرّد، الرفض، التجاوز، الحداثة، التجديد، الجنون... إلخ ليست إلّا مفاهيم ذهنية في جوهرها. ولكن اللعب التقني في اللغة يمنحها قناعها الشعري.
لا أتحرّج من تأثُّري بعشرات الشعراء العرب وغير العرب
الشاعر العربي القديم، بعد الإسلام خاصّة، أتلفتْ موهبتَه ووقته "الأغراض". قصيدة الفرزدق في محاورته البارعة مع الذئب قصيدة رائعة، ولكنها تلاشت مع موهبته تحت ركام قصائد المدح والفخر والهجاء المبتذلة. الأمر يصحّ على شعراء كبار مثل المتنبّي وأبي تمّام والبحتري... إلخ. لدينا شعراء عظام ينفردون بالانسحاب العميق إلى التجربة الشعرية الداخلية كأبي العلاء المعرّي وأبي نؤاس.
■ للشعر لغته وللرسم لغته وللموسيقى لغتها. في بعض الأحيان يُخيَّل إلى القارئ أنّ بعض أشعارك تتكشّف عن لوحات ترسمها فرشاة الحروف، وأحياناً كثيرة أخرى تتجلّى في شعرك طبقات اللحن الموسيقية. فوزي كريم، الشاعر، الرسّام وعاشق الموسيقى والكاتب عنها كثيراً، هل لديه ثلاثة فضاءات في عالمه الداخلي منفصل بعضها عن بعض، أم أنّ تلك الفضاءات متّصلة بشكل ما، ويثري بعضها الآخر؟
- صحيحٌ أنّ لكلٍّ مِن هذه الفنون لغته الخاصة، ولكنّ هذا يعني أيضاً أنّ على الشاعر أن يتحدّث لغات بليغة عدّة. لغة اللسان، لغة العين ولغة الأذن. كنتُ مولعاً منذ صباي بالنحت والرسم. كان صوتي رخيماً في أداء الأغنية العربية. مرّةً سمعتُ رابسودي للموسيقيّ فرانس ليست، فطربتُ له طرباً جديداً لا عهد لي به. عزّزه سماع افتتاحية أوبرا "حلّاق إشبيلية" لروسيني، وبضعة أعمال على البيانو كانت تُقدَّم على التلفزيون في الخمسينيات. طبعاً لم أعرف أسماء الأعمال، ولا مؤلّفيها إلا لاحقاً. إلا أنني أحسستُ بأنَّ هذا النوع من الموسيقى ينطوي على أفق أوسع يليق بتطلُّعي العقلي والروحي. حين حلّ الكتابُ وولعُ القراءة عمّقا من رهافة الأذن، لأنّي كنت مولعاً بكتب الأدب العربي القديم. كنت أقرأ ولا أفهم، بفعل صعوبة اللغة القديمة. غياب المعنى عمّق من تأثير الصوت، ولذلك صرتُ أقرأ بصوت مسموع، حتى صارت موسيقى اللغة العربية مقترنة بموسيقى الآلة أو موسيقى الصوت البشري.
يُشكّل الشعر والموسيقى والرسم لدى الشاعر فضاءً واحداً
الرسم والنحت والموسيقى فنون تتطلّب مراناً، كما تتطلّب إمكانات مادية عدّة، كانت عصية عليَّ آنذاك لتواضُع الحال. إلّا أنَّ تلك الفنون شكّلت هاجساً داخلياً لا يخمد، أصبحت مع الأيام القاعدة الإسمنتية للشاعر فيّ. طبعاً، هذه الإمكانات المادية، من مال ومكان وزمان، قد توافرت بصورة يسيرة فيما بعد، حين جئت لندن مطلع عام 1979.
هذه الفنون لدى الشاعر تُشكّل، مع الشعر، فضاءً واحداً. حين أكتب قصيدة أشعر أحياناً بأني بحاجة لأن أُربك الصورة التي في مخيّلتي. وأحياناً يدفعني وازعٌ عميق لأن أُربك اللحن في البيت الشعري الواحد. أُربك الوزن. أو أحطّم الخطّ الحاد الفاصل من مزاج مقطعَين متلاحقَين في قصيدة واحدة. أو أُفرد مقطعاً مستقلّاً داخل القصيدة، وكأنه مُملى عليَّ مِن فن "الآرية" في سياق الحوار داخل الأوبرا. هذه الحاجة الداخلية في الشاعر إنما تنتسب أوّلاً إلى الرسم وإلى الموسيقى. إلى الرسّام أو إلى الموسيقي الكامنَين فيه.
■ من هم الشعراء الذين تأثّرتَ بهم وأثروا تجربتك الشعرية؟ هل يعُدُّ فوزي كريم نفسه صوتاً مستقلّاً، أم أنه يشكّل جزءاً من تيار شعري له مؤسّسون سابقون؟
- أحياناً يُخيَّل إليَّ أن الشاعر حين يكتب قصيدة، إنما يعيد كتابة القصيدة التي توالت كتابتها منذ أول الخليقة حتى اليوم. إنه يُضفي على النص خبرته الداخلية التي تتّسم بالندرة. وبذلك يكتسب النصُّ شرعية الانتساب إليه.
بهذا التوجُّه أجدني أُقبل على الموروث الشعري الإنساني باندفاعة واحدة، وأجدني كالنحلة أحاول جاهداً أن أمتصّ رحيق كلّ شاعر. ولا أتحرّج من تأثُّري بعشرات الشعراء العرب وغير العرب. قدامى ومحدثين. فأنا داخل مجرى الشعر العربي/ الإنساني، ولا أحيد عنه. أُسهم في تعميق هذا المجرى ما دمتُ فيه. لا أميل إلى التفرُّد بفعل تجريب لغوي، شكلي. ولا التميُّز بالتعلُّق بمواقف وأفكار وتوجُّهات بعينها. ولذلك أعتقد أن الشعر يتعارض مع العقيدة، ومع أي التزام فكري.
كان الشعر، وأفترض أنه ما زال، رغبة في البوح بخبرة داخلية
داخل المجرى فقط يمكن الشاعر أن يحقّق بأصالةٍ صوتَه الشعري المتميّز، عبر خبرته الداخلية الخاصّة والنادرة. لأنه داخل هذا المجرى، وعبر تزاحم الأصوات البليغة، يملك أن يثق بتميُّزه. الأصوات البليغة عبر التاريخ هي أصوات الأسلاف والآباء، وأصوات المعاصرين. وبهذا يكون تأثُّري لا حدود له. إن مهمّة الشاعر - على حدّ تعبير الشاعر ريلكة - هي أن يصل الماضي الأبعد بالمستقبل الأبعد.
أشعرُ بقرابة نسب مع شعراء عرب وغير عرب كثيرين: امرؤ القيس، لبيد، المعرّي، أبو نؤاس، ابن الرومي، السيّاب، صلاح عبد الصبور، البريكان، دانتي، ليوباردي، مونتالي، كوازيمودو، طاغور، بوشكين، باسترناك، مندلشتام، شيكسبير، ورزورث، كيتس، ويتمان، توماس هاردي، روبرت فروست، إزرا باوند، ييتس، إليوت، أودن، كفافي، ريتسوس، ميووش... وآخرين كثر. هؤلاء الشعراء يوفّرون لي شخصياً فرصة حوار صامت معهم، خاصٍّ وعميقٍ. تماماً كالحوار الصامت العميق الذي أشعره مع عدد من قرّاء شعري. تنبّهني إلى ذلك الرسائل التي أتسلّمها بين حين وآخر.