الجشع في الكذب واحدةٌ من خصائص الكيان، لن يبرأ منها إلّا بمعجزة. وبما أنّ زمن المعجزات ولّى ولن يعود، فلن يعود الصهيونيُّ عن جشعه في الكذب (اسم مصطنع، أخفّ وقعاً من "الهَشَت" الصُراح)، حتى لو مات.
والكيان يقلّد هنا مُرضعتيه الكبريين: بريطانيا وأميركا، والدتا الهَشَت الكونيّ ورائدتاه في الأزمنة الحديثة.
لقد كذبوا وكذبوا وكذبوا حتى صدّقوا أنفسهم، وحتى مثّلت نُخب أوروبا أنّها تصدّقهم، لغير سبب: تقاسم المصالح، وعقدة الذنب من أشباح النازيّين.
ولأنّي أعيش في القارّة العجوز منذ 12 سنة، فسأركّز الحديث عنها، في الجوانب التي لديّ اهتمام بها، أي الفنون والآداب والإعلام، حيث لا يمكن فصل أيّ منها عن الآخر.
لن أدخل في التفاصيل، وعندي بعضُها، التزاماً بحجم المقال، وإنّما سأخرج من خبرة لا بأس بها، بخُلاصاتٍ قد تكفي وتؤدّي الغرض.
أكثر المثقفين يتجنّب قول كلمة الحقّ، لأنّها مُكلِفة
لم أصادف في مجال عملي واهتمامي أيّ تابو على الإطلاق سوى تابو المساس بالصهيونية وكيانها، حتى ليمكن القول إنه التابو الوحيد عند المثقّفين الأوروبيّين بالعموم والخصوص، وكلّ من يقترب منه، سيدفع الثمن، فقراً وتهميشاً وخنقاً وتعتيماً، إلى أن يكتئب صاحبُ الضمير، ويُعزل، أو يَعزل نفسه بنفسه عن المجال والمحيط.
أعرف عشرات المثقّفين من مبدعين وناشطين في غير بلد، كانوا يغبطونني، خارج الميكروفون، لأنّي أتكلّم كما أريد ـ هكذا يفهمون الصورة، من زَبَد السطح لا من طين الأعماق.
كانوا يقولون: نحن نستطيع كلّ شيء إلّا هذا. نستطيع مهاجمة نُخب المال، ورأسَي الملك ورئيس الوزراء، وكلّ سلطة من الرؤوس الدنيا، سياسياً وثقافياً، ولن يحاسبنا أحد، باستثناء الاقتراب من (نقد "إسرائيل").
كانوا يشيرون إلى آحاد من مثقّفيهم، حوصروا ودفعوا الثمن. وكان أكثرهم لا يحبّ لنفسه ذلك المصير، أي قول كلمة الحقّ، لأنّها "مُكْلِفَة"، ولأنّ قليلهم ينتمي للطبقة الوسطى في أحسن الأوضاع، بينما سوادهم الأعظم من الطبقة الوسطى الدنيا، المسكونة بشبح الانزلاق إلى طبقة المعدمين، حيث سيشتاقون لو هبطوا سلالمها إلى ما يقيم الأود، والدفء تحت سقف، فضلاً عن خوف التشرّد والنوم في العراء.
هنا يسيطر اليمين على كلّ مفاصل السياسة والاقتصاد والإعلام
أجل: إلى هذه الدرجة، وصل بهم الحال. فكيف لمن يحيا وُعورة ظرف كهذا، أن يصدع بالحق، في بُنية نظام لا يرحم، ويعتبر عدم "نجاحك" في تلافي "المُحرّم الأوحد"، "حماقة"؟
والحقّ أنّ المثقّفين الإسبان والبرتغاليين عامّة هم الأشجع والأحدّ ضميراً، بالمقارنة مع باقي المثقّفين في الجهات الثلاث من أوروبا.
ولهذا أسباب طبعاً، منها أن الإيبيريين جنوبيون بعيدون عن عقدة "صناعة الهولوكوست"، وإحساسهم الإنساني غير معطوب، فطرةً وطبْعاً وتحصيلَ وعي، كما أنّهم "سيئون" في حساب الربح والخسارة ـ هذا النعت قاله لي مثقفٌ شهير من "الشمال".
أمّا بلجيكا، وخاصة في الإقليم بالغ الثراء منها: فلاندرز (متوسّط دخل مواطنها هو الأعلى على مستوى الكوكب، ويعتبرها عديدون "كنز القارّة البيضاء")، فحدّث ولا حرج.
هنا يسيطر اليمين على جميع مفاصل السياسة والاقتصاد والثقافة والإعلام، وهنا يهيمن اللوبي إيّاه، مثلما يحدث في شقّها الجغرافي اللغوي، الثاني: هولندا.
ولهذا، فعليك أن تبحث في كومة القشّ عن إبرة المثقّف صاحب الموقف.
وليس مثيراً لو قلت إنّ المواطن العادي في إقليم والونيا (الفقير ذي اللسان الفرنسي، وأحد الأقاليم الأربعة التي تشكّل المملكة)، أعلى وعياً بخصوص قضيتنا، وأوسع إدراكاً من المثقّفين الفلمنش في عموم فلاندرز.
وليكن مثالٌ: أنتويرب عاصمة الإقليم، سياسياً واقتصادياً وثقافياً، بمعظم بلدياتها الـ 13، وضعت العَلَم إياه، ليغطّي واجهة مبانيها، مهما كَبُر الحجم.
ولأنّي أسكن في شارع يتبع بلدية شيوعية (هي جزء من حزبٍ له تمثيل معقول في البرلمان الفيدرالي)، فقد ظلّت الوحيدة بين البلديات، لا ترفع العلم، ووقف ممثّلو المنطقة والحزب، معنا، ولكن، كعادة اليسار الأوروبي: "نصف موقف".
أمّا مبدعو ومثقّفو فلاندرز، فلا حسّ ولا خبر، في أحسن الأحوال. وفي أسوئها، انحاز أغلبُهم للمحتل، لأنه أولاً: "تابو"، ولأنهم "مستفيدون" منه، ثانياً وأخيراً.
يوجد إقليم ثالث، صغير ومتوسّط الحال ومنسيّ، لسانه ألمانيّ، ويعيش على الهامش. ولهذا فهو لا يعنينا، كونه يتبع مواقف الأم: ألمانيا.
أمّا بروكسل، الإقليم الرابع ذو اللسانين الفرنسي والفلمنكي، والعاصمة الفيدرالية ومقر مؤسسات الاتحاد الأوروبي، فيقيناً كانت الأفضل، والأعلى صوتاً، بين الجميع، لسبب وجيه: أكثر المشاركين في تظاهراتها الكبيرة هم من اللاجئين العرب والمسلمين.
مع ملاحظتين إجماليّتين لا بد منهما: مثقّفو فلاندرز هم الأقرب موقفاً حدَّ التطابق من المثقّفين الألمان، كما قشعناهم خلال هذه المجزرة.
والأُخرى، نقولها بأريحيّة لا غبار عليها، بل هو القذى وما هو أنكى: كلّ وسائل الإعلام الكبرى في القارّة، من الجنوب إلى الشمال، ومن الغرب إلى الشرق، وقفت مع الكيان، منذ اليوم الأوّل وحتى اللحظة، بالباع والذراع، وبالتضليل وبدسّ السمّ في الدسم، منحازة إلى مصالحها، حيث يهيمن اللوبي الصهيوني على جزءٍ كبير من أسهمها، بعيدة كلّ البعد عن الولاء لوقائع الحقيقة ومسار التاريخ، مع "تغيّرات" طفيفة، بعد انكشاف الطابق، لا تمسّ الجوهر، هنا وهناك، على صفحاتٍ منسية من إصدارها الورقي، حيث المكان الذي لا يصل إليه القارئ العادي، وكذلك فعلت في مواقعها على الشاشة.
لقد اندهش بعض مثقّفينا العائشين هنا، وكأنّهم بلا ذاكرة، وكأنّ هذه الحالة الفاضحة من الانحياز للقتلة هي الأُولى في التاريخ، ناسين أنّهم يعيشون في قارّة صاحبة السبق في صناعة البروباغاندا، ولديها خبرة مكينة عمرها لا يقلّ عن مئة وخمسين سنة، من الشغل الاحترافي المتقن.
قارة تَعلّمَ منها الآخرون، لكنّهم ما زالوا يقلّدون الأصل، دون الوصول لمستواه.
لشَدّ ما آلمتني دهشتهم، لأنّ مخبوءها يعني أنهم بلعوا كل ما قرأوا أو قيل لهم عن أوروبا، قبل أن يصلوها، فلمّا وصلوها، وجرى ما جرى، فوجئوا واندهشوا.
إنّها مرتبة من الطيبة، لا يمرّ بها إلا مَن يعتريهم النسيان!
* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا