1
استيقظ العالم، صبيحة السبت الماضي، السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، على صوت فلسطين، يُدوّي في البلاد البعيدة والقريبة. "طوفان الأقصى". هذا هو الاسم الذي أطلقته المقاومة الفلسطينية على عمليتها. وهو علامة على ما يحدث، بدءاً من مدار غزة حتى آخر نقطة في فلسطين. صوت فلسطين، الذي ظنّ الأعداء والعملاء، جنباً إلى جنب، أنه غاب إلى الأبد. منذ الساعات الأُولى من الصباح جاء الصوت جبّاراً، صاعقاً. فلسطين على طريق الحرية. أبطال غزة يكتسحون الحدود والموانع وأجهزة الإنذار. يقتحمون. في لمح البصر حقّقوا ما لم يتنبّأ به عدوٌّ ولا عميل. حتى الولايات المتحدة، بترسانة استخباراتها وأقمار تجسُّسها، لم تلتقط أي حركة تضعها في خانة ما تسمّيه الحركات المُريبة.
مُدهشٌ هذا الطوفان. أتى من أعماق النفوس الفلسطينية الحرّة ليكتسح الغطرسة الإسرائيلية ويكشف عن نفاق الذين لا يتخلَّون عن ادّعاء دفاعهم عن الحرية والديمقراطية في العالم. كل ذلك جرفه صوت فلسطين، صباح السبت، إلى هاوية لا قرار لها. في وقت وجيز حصل ما لم يتخيّله أحد. الجيش الإسرائيلي "المنيع" ينهارُ تحت وقع الطوفان. أبطال غزة المحاصرة، منذ سبعة عشر عاماً، يتقدّمون ويكتسحون.
صدمة الأعداء والعملاء، ودهشة المناصرين والأوفياء
مشاهد الاكتساح تعدّدت. والذين حقّقوه شُبّانٌ يحملون نفوسهم ويتقدّمون، باتجاهات مختلفة، وبطُرق كما لو أنها لأفلام البطولة. بإبداعية تشاهدهم يتقدّمون، جماعات جماعات، وعلى وجوههم مسحة الإباء والثقة بما أقدموا عليه وبما نَحْوه يتقدّمون. كانت الكاميرات تركّز أحياناً على الوجوه العارية وفي أحيان أُخرى على الملثّمين، الذين يُتقنون إخفاء الوجوه، تمرُّساً منهم بسلوك الانضباط لطبيعة ما يؤدّونه. وهم جميعاً لا يهابون شيئاً، بل إنهم يعظمون الاستشهاد. في هذه الوجوه تقرأ معنى البطولة، التي وصفتها أعمال أدبية وفنية أصبحت مرجعية لمعنى البطولة في التاريخ.
2
عيون الفلسطينيين لا تنام، منذ الهجرات الأُولى للصهاينة إلى أرض فلسطين، منذ ثورة البُراق 1930، منذ إعلان دولة "إسرائيل" سنة 1948 وما قامت به في حقّ الفلسطينيين من قتل وتهجير ومذابح واستيلاء على الممتلكات والأراضي. تطهير عرقي لا يخشى ولا يتوقّف. الآخر، الفلسطيني، مآله القتل، الطرد، المَحْق، باسم الحق الإلهي. ولك أن تضيف إلى قاموس الاستعمار والتطهير العرقي أسماء العذابات البشرية مضاعفة، تمارسها "إسرائيل" تحت سماء الديمقراطية العارية ومباهاة الغرب بمساندته لـ"حقّ إسرائيل" في ما تسميه آناً بـ"الحق في وجودها"، وبـ"الحق في الدفاع عن نفسها" آناً آخر. لا بد أن نذكّر. مأساة فلسطين فريدة في عصرنا الحديث ولن نندم على التذكير وإعادة التذكير.
حرية فلسطين ليست بيد أعدائها ولا عملاء "إسرائيل"
أما عيون الفلسطينيين فلا تنام. عيونهم مفتوحة على كلمتهم المجيدة ـ الحرية. جيل من المقاومين بعد جيل، شهداء بعد شهداء. وكلمة الحرية تنمو بينهم ويتّسع مداها في المقاومة المسلّحة، التي أكسبت الفلسطينيين هويتهم. يتّسع ويتعمّق مداها في الشعر والرواية والمسرحية والأهازيج والفنون المختلفة. بذلك عيونهم لا تنام. ساهرون على شعلة الحرية بينهم، في أرضهم، وفي مخيماتهم أو مهاجرهم المنتشرة عبر الأرض. لا يعرف معنى الحرية إلّا المحرومون منها، المسروقة منهم والمُمتحنون بسببها في الفواجع والعذابات.
3
مع "طوفان الأقصى" استعاد اسم فلسطين مكانه ـ مكانته. كانوا تجرأوا على محو اسم فلسطين من لغاتهم. وبوقاحة لا تُضاهى تم أمام ممثّلي العالم عرض ما سُمّي "خريطة الشرق الأوسط الجديد" التي لا وجود فيها لأرض فلسطين ولا لاسمها. وها هو الاسم، فلسطين، يعود، رغماً عن كل أصناف التسميات التي يفضلها "الإسرائيليون"، أو الأعداء والعملاء. ليسمّوا الفلسطينيين الأبطال بما شاؤوا، لكن هؤلاء الأبطال باسمهم، من "طوفان الأقصى"، يكلمون الأخرس والأعمى.
يكفي أن يعود اسم فلسطين. أراد الصهيونيون محوه بممحاة الطغيان، بممحاة الجبروت، بممحاة الغطرسة، إلا أنه يعود رغماً عنهم. اسم هو العلم الفلسطيني الذي جاب أقطار العالم في مشاهد لم تتوقّف، عبر وسائل الاتصال، لساعات طويلة، وبعدها لن تتوقّف، لأن هذه المشاهد لم تتوقّف أبداً. فلسطين بأبنائها الأوفياء للمقاومة، بما هي لغة وحيدة لقول "لا" كبيرة.
كل طرف كان حريصاً على أن يتأكّد ممّا يجري، لحظة بعد لحظة، في عدة قنوات تلفزيونية وفي إذاعات وصحف. هي الصدمة، لدى الأعداء والعملاء، أو الدهشة، لدى المناصرين والمتضامنين، فاقت الحد لديهم جميعاً، لذلك كان طبيعياً أن يكثر التنقل بين قنوات ومحطات. وفي التعدد برزت أنباء العملية وتوالت المواقف منها والآراء بشأنها. يبادر مراسلون بإعطاء معلومات عن سير العملية وانعكاساتها في إسرائيل. مختصّون وخبراء ومحلّلون، أو مسؤولون في دول ومؤسسات، يُبدون وجهة نظرهم. عملية غير مسبوقة، ويوم لا ينسى.
4
أرادوا أن يستبدلوا حرية فلسطين بالتطبيع مع الذين لا توجد كلمة الحرية في قاموسهم. ذلك ما كانت تسعى إليه الصهيونية الاستعمارية، وتكاملت معها في مسعاها كتلة الغرب، من أوروبا إلى الولايات المتحدة الأميركية. جهّزوا الأبواق، كذباً، مثلما جهّزوا المعتقلات، جوْراً. وفي كل ما أقدموا عليه كانت تنقصهم حاسة الشم ليدركوا أن اسم فلسطين لن يُمحى وأن حرية فلسطين ليست بيد أعداء فلسطين ولا عملاء "إسرائيل".
متضامنون في البلاد البعيدة والقريبة كتّاب ومفكّرون وفنّانون
لنتأمّل جيداً هذا التاريخ العريض من مقاومة الشعب الفلسطيني. كلما تآمروا، تضامنوا وتحالفوا لمَحْو اسم فلسطين، وكلما لطّخوا بوحلهم حرية فلسطين، انتفضت أرض فلسطين، وقف أبناؤها في أفق الحلم الفلسطيني. أحفاد اليوم يمجّدون آباءهم، مثلما كان آباؤهم يمجدون آباءهم. مقاومون عن مقاومين. أحفادٌ لآباء لأجداد. سلالةُ أمجاد لا يموتون. واسم فلسطين كما حرية فلسطين بيد الفلسطينيّين وحدهم.
5
عيون الفلسطينيين مفتوحة على الحرية، لا تنام. وحولهم متضامنون في البلاد البعيدة والقريبة. كتّاب، ومفكّرون، وجامعيون، وفنّانون، أو مواطنون من آفاق، يحملون اسم فلسطين وينتصرون لحرّية فلسطين. جموع تتآلف في الوقوف من أجل اسم فلسطين وحرية الفلسطينيّين. عندما تفتح وسيلة من وسائل الاتصال على المناصرين لفلسطين والفلسطينيين تلمس مدى قوة الانتصار، بالصبر والبصيرة.
لم يكن أحد من المناصرين لفلسطين يحتاج إلى سقوط أقنعة العملاء. فهي سقطت عندما تفردوا بالسلطة وشرعوا الأبواب لاحتضان الصهيونيين، الاستيطانيين العنصريين. ولم يخطئ المناصرون في تتبّع ما عاشه الأعداء والعملاء من الفوضى ولا من التستّر عن مشاهدة ما لا يشتهون مشاهدته من اندحار "إسرائيل"، وفشلها في أن تكون سيدة دون الفلسطينيين على أرض فلسطين.
"طوفان الأقصى" لن ينتهي، لأن ما حقّقته المقاومة، منذ الساعات الأُولى من بداية الطوفان، جرف غطرسة الإسرائيليين ومعهم الأعداء والعملاء. نعم، لن ينتهي "طوفان الأقصى". ما شاهدناه يوم السبت الماضي، وشهد عليه العالم، فعلٌ ساحق ومعجز. إنها المقاومة الفلسطينية في مركز ما سيأتي. لا ريب، سيتضاعف عدد الأعداء والعملاء مثلما سيظهر مناصرون.
الوقائع، قبل النبوءة، هي التي تُرشد المقاومين، بمختلف أفعالهم وكلماتهم أو تعبيراتهم. "طوفان الأقصى"، عزيراً أتى وعزيزاً يبقى، لأجل فلسطين ـ الحرية.
* شاعر وكاتب مغربي