فضاء الكتابة الفاسد

08 مارس 2021
فاتح المدرّس/ سورية
+ الخط -

توصف الرواية السوريّة، في جزءٍ كبيرٍ منها، بأنّها رواية سياسيّة، إذ قلّما تخلو رواية سورية من إشارة إلى عامل سياسي، إمّا توثيقاً أو ترميزاً، أو من خلال النماذج التي تقوم عليها هذه الرواية؛ من المُخبر إلى الصحافي الفاسد، إلى الضابط ورجل الأمن. كلّها علامات تشيرُ إلى تدبيرٍ غير تلقائي في المجتمع، وتشيرُ إلى أحد تدخلات السياسة.

عدا عن النماذج القادمة من واقع الخراب السياسي، التي تظهر في كثير من الروايات السورية، فإنّ فضاء عدد كبير من الروايات هو فضاءٌ فاسد. تدور الحكاية السورية إمّا في السجن، أو في بيئة العمل التي تنخرها أساليب التآمر المخابراتية، أو بيئة النخبة المُتواطِئَة والمُختَرَقة. والعلاقات التي ترصدها كثيرٌ من الروايات قائمة على ثنائيات سلطوية مثل؛ الجلاد والضحية، السجّان والسجين، كذلك العلاقات مع الأمكنة هي علاقات إمّا تغرق في موجات من الحنين العاطفي الرّث، أو إنّها تأخذ شكلاً انتقامياً رافضاً. إلى جانب الولاءات للتيارات السياسيّة التي يمثلها الشيوعي أو اليساري السابق أو الإسلامي. في الحقيقة، تبدو السردية السورية في جزءٍ منها؛ تحاول أن تنقذ أبطالها عبر إخراجهم من برّاد الموتى وتشريحهم من جديد، تحاول أن تنصفهم من جرّاء الآلام الواقعية التي حطمتهم طوال عقود.

بمقاربة للسردية السورية بعد عام 2011 عبر زاوية الفضاء الفاسد؛ هل تغيرت هذه السردية في العمق فعلاً؟ نخشى أنّها لم تتغير البتّة، وفضاء الحريّة بقي فضاءً مسموماً. وما حدث في هذا الجزء من السردية، أنّ الواقع المُستبد كان قد مسخ أبطاله بصورة محكمة. التغيّر الذي أصاب الكتابة كان أشبه بنقل الأثاث من غرفة إلى ثانية ضمن فضاءِ المنزل المسموم ذاته. حتى الروايات التي تعاطت مع الحدث بصفتهِ انطلاقاً إلى آفاق الحريّة، بقيت نماذجها عالقة في دوائر التآمر والخديعة والخيانة، كما لو أنّ هذا الجزء من السردية، يرصدُ إنساناً خَرِباً. لكنّ رصد مصير الإنسان الذي خربتهُ أيدولوجيا عنيفة ومتصارعة في ما بينها، ظهر على هيئة تنكيل بالنموذج الروائي. والواقع غير الرحيم، قد أنتج إنساناً يصعبُ أن تلتئم جراحهُ من غير أن تفتح لديه جراحاً أخرى.

فقد القارئ أحد آمالهِ بأن يقرأ عن حياة عادية

هكذا صار القارئ يقرأ عن أبطالٍ يصعب أن يتعاطف معهم في أعماقهِ. فالأبطال الضحايا، يميلون من غير إرادة، إلى أن يصيروا جلّادين. لا شك أنّ غياب العمل السياسي الفعلي منذ نصف قرن، هو سبب التورط السياسي للسردية السورية، فالمثقف عبّر عمّا يشغله عبر نسج حكاية يعترض فيها على واقعٍ قاسٍ، الكلمة فيه مكلفة. وإذا كان فضاء الحريّة والعمل السياسي غير موجود، فمن المفهوم أن نجد في الروايات السورية التي أخذت على عاتقها محاكمة الواقع، نوعاً من التعويض عن انسداد آفاق الواقع المُسْتَلِب للشخصيات، الواقع المشوّه الذي أغرق الرواية في مستنقعاته.

إنّ جزءاً من السردية السورية كان يذهب إلى ما هو إشكالي، إلى ما يقارع بهِ السلطة التي فرضت أدواتٍ لا يمكن تجنّبها بسهولة في المجتمع. كان يذهب إلى ما هو مُحَطَّم كي يحاول رتقهُ، غير أنّه لا يوجد سبيل إلى رتق الجثث المفتوحة من كلّ جانب. ولم يكن من سبيل أمام روائيين، سوى أن يأخذوا الإنسان الذي شوّهه فضاء فاسد، ويضعوه في ميزان الأدب. بذلك ربما، لم تصب الخسارات صورة السلطة وحسب، وإنّما فقد القارئ أحد آمالهِ، بأن يقرأ عن حياة عادية، فحياة السوريين العادية صارت منذ زمنٍ ضرباً من الألم والشقاء.


* كاتب من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون