من المعروف أن هناك تحوّلات عديدة طرأت على بنية السلطة في الدولة العثمانية بدءاً بما يُعرف بعصر التنظيمات. وتُعد قضية "الرقابة" من أبرز القضايا الشائكة في تلك المرحلة، وخصوصاً في أوج صعود الحكم الفردي في الحقبة الحميدية. من هنا تأتي أهمية كتاب الباحثة والأكاديمية التركية فاطمة غول دميرال، الصادر حديثاً عن دار نشر "باغلام" بعنوان "الرقابة في عهد عبد الحميد الثاني"، حيث رصدت دور الرقابة في تلك المرحلة الضبابية من عهد عبد الحميد، ضمن سياقها التاريخي، بعيداً عن ثنائية تأييد ومعارضة السلطان، معتمدةً على الوثائق العثمانية لتلك المرحلة.
تَعتبر دميرال أن إرهاصات الرقابة ظهرت في الدولة العثمانية أولاً مع ظهور المطبعة، والتي تعتقد أنه لم يجرِ إحضارها إلى الدولة العثمانية على يد إبراهيم متفرقة، خلافاً للاعتقاد السائد، ولكن جاء بها يهود من إسبانيا في وقت مبكر جداً عام 1492. وتذكر الباحثة أنه حُظرت في تلك الفترة الطباعة باللغتين التركية والعربية، إلا أن مطبعة متفرقة هي أول مطبعة تركية في إسطنبول. وترى دميرال أن الإجراءات الحقيقية للرقابة في الدولة العثمانية قد بدأت في فترة التنظيمات (1839 - 1876).
وفي ما يتعلق بالرقابة على الصحافة، من المعروف أن الفرنسيين هم أول من أصدروا صحيفة في الدولة العثمانية عام 1795. وفي السنوات التالية أصدر غير المسلمين من العثمانيين عدة صحف أخرى، وترى دميرال أنه مع ظهور غير المسلمين في الصحافة، احتاجت الدولة العثمانية إلى صحيفة تعكس وجهات نظرها للجمهور، وبدأت الدولة بالفعل في إصدار صحيفة "تقويم الوقائع" في عام 1831. وصدرت هذه الصحيفة باللغات العربية والفارسية واليونانية والفرنسية.
ظهرت إرهاصات الرقابة في الدولة العثمانية مع وصول المطبعة
مع مرور الوقت، تم افتتاح الصحف الخاصة وازداد عددها بشكل ملحوظ. وقد سعت الدولة العثمانية إلى السيطرة على الصحافة، حيث وضعت اللائحة الأولى للرقابة على المطبوعات عام 1857، ونصت على عدم السماح بطباعة الصحف والمجلات والكتب إلا لمن تتوفر فيهم الشروط اللازمة. اللافت للانتباه في القسم الأول من كتاب دميرال، المخصص للرقابة على الصحافة الداخلية هو أن هذه الرقابة لم يجرِ إضفاء أي طابع مؤسسي عليها في الإمبراطورية العثمانية حتى عام 1862، ولكن زيادة الصحف في السنوات التالية أظهرت الحاجة لإضفاء هذا الطابع، ولذلك تم إنشاء "مديرية الصحافة" في هذا العام، وكانت المهمة الرئيسية لهذه المؤسسة هي ضمان العمل المنتظم للمطبعة الحكومية.
ومع ذلك، تذكر دميرال، أن هذه المؤسسة قد بدأت أيضاً في السيطرة على الطباعة، حتى صار على صاحب أو رئيس تحرير كل صحيفة أن يوقّع على نسخة من كل صحيفة سيجري نشرها وتسليمها إلى هذه الإدارة، بشكل يومي أو أسبوعي، حسب نوع الدورية. وقد أدى الانتشار السريع للصحافة وتطورها إلى حاجة الإدارة العثمانية لوضع لائحة جديدة أكثر صرامة. وبحسب الباحثة، فقد جرى ذلك بالفعل عام 1864، ونصّت على حبس المسؤولين إذا نشروا أخباراً من شأنها الإخلال بأمن الدولة أو المساس بالسلطان وعائلته ورجال الدولة والدول الصديقة.
ومع حلول عام 1867، سيطرت الدولة بشكل كامل على الصحافة. وفي هذه المرحلة، جرى إغلاق بعض الصحف، مثل صحيفة "مُخبر" ونُفي مؤسسها علي سوافي، وصحيفة "تصوير الأفكار" وعُيِّن محرِّراها نامق كمال وضياء بك في مناصب بعيدة.
وتَعتبر الباحثة أنه مع حلول عام 1878، بدأت الرقابة مرحلة جديدة في الحقبة الحميدية، حيث تولّى هذه المهمة أكثر الرجال ولاءً لعبد الحميد في مديرية الطباعة، وبدأت عمليات إغلاق الصحف مؤقتاً أو كلياً، بشكل أوسع، وكان من الممكن لرئيس مدير شؤون الطباعة الداخلية أن يمنع كل ما يُعتقد أنه لن يعجب السلطان، وأن يغير اسم الخبر أو العمل المنشور في الصحيفة. كما تبين دميرال أن عملية الحصول على إذن لإنشاء صحيفة كان يستغرق وقتاً طويلاً في تلك المرحلة، وخصوصاً إذا كانت سياسية.
وتؤكد الباحثة أن المجلات خضعت أيضاً للرقابة الشديدة في ذلك الوقت. على سبيل المثال، أُغلقت مجلة "ثروة الفنون"، إحدى أهم المجلات الطليعية في تلك الفترة، بسبب مقالة "الأدب والقانون" التي ترجمها حسين جاهد يالتشين من الفرنسية. إلا أنه في التحقيقات اللاحقة، ذكرت المحكمة أن الرقيب فرض رقابة غير قانونية، وأن المقال لم يحمل شيئاً محظوراً وفق اللوائح، وتمت مقاضاة الرقيب وأُعيد فتح المجلة.
تتناول الباحثة قضية أخرى تتعلق بالرقابة والصحافة، ألا وهي قضية تقديم السلطان لمساعدات مالية للصحف، وتبين دميرال أن هذه السياسة بدأت في عهد السلطان عبد المجيد، وواصلها عبد الحميد من بعده، حتى أنه قدّم دعماً من أمواله الشخصية. وتذكر الباحثة أن هذا الأمر لا يتعلق فقط، كما يعتقد البعض، بأن تصبح المطابع والصحف موالية للسلطان وتمنع المطبوعات غير اللائقة. فقد أُغلقت، كما يتضح من الوثائق، بعض الصحف التي حصلت على دعم بسبب نشر بعض الأخبار حول موضوعات محظورة. وترى أنه ربما أراد عبد الحميد ألا يخسر كل الصحف حتى لا يضطر الصحافيون إلى السفر للخارج والمعارضة من هناك. وهكذا كان عبد الحميد يطبق سياسة التوازن، بمواجهة الصحافة العثمانية الشبابية من خلال تقديم الدعم المالي للصحف.
سعى السلطان عبد الحميد الثاني إلى السيطرة على الصحافة
وفي ما يتعلق بالرقابة على نشر الكتب في تلك الفترة، تذكر دميرال أنه تم تطبيق الرقابة أيضاً على الكتب، حيث جرى إصدار لائحة 1894 الخاصة بالمطابع وبائعي الكتب، وبناءً عليه يأتي دور وزارة المعارف التي كانت تقرر ما سيجري نشره أم لا خلال ثلاثة أشهر. وإذا كانت الكتب مصوّرة، تكون الرقابة من اختصاص "دار الصنائع النفيسة" (مدرسة الفنون الجميلة)، وإذا كان الكتاب يحتوي على موضوعات دينية، يُؤخذ رأي شيخ الإسلام. وتعلّق الباحثة، في هذا السياق، بأن لوائح الرقابة آنذاك، لم تخضع لمعايير واضحة، والمثال على ذلك، أنّ رواية "سفيلة" لخالد ضياء نُشرت عبر حلقات مسلسلة في الصحف، وفي وقت لاحق، مُنع نشرها في كتاب. وتذكر الباحثة في هذا السياق أبرز أسماء الأدباء الذين حُظرت كتبهم آنذاك، من بينهم فيكتور هوغو، ودانتي، وجول فيرن، ومن الأتراك نامق كمال، وأحمد مدحت أفندي، وضياء باشا.
وإجابةً عن أحد الأسئلة الشائكة التي تتعلق بالرقابة في المرحلة الحميدية، حول ما إذا كان عبد الحميد قد أمر بحرق بعض الكتب أم لا، وهي من القضايا التي جرت مناقشتها كثيراً، تؤكد دميرال أن هناك بعض الكتب التي أُحرقت في عهده بالفعل، وفقاً للوثائق. من بينها "التاريخ العثماني" لنامق كمال، ومسرحيته المعروفة بـ"الوطن ياهوت سلسترة"، وديوان "مَقْبَر" للشاعر عبد الحق حميد.
تخصص الباحثة القسم الثاني من الكتاب للرقابة على الصحافة الأجنبية، وتعتقد أن السلطان قد اهتم كثيراً بهذا الموضوع، وكان يتابعه من خلال السفراء. وتذكر أن المكتب الصحافي العثماني للشؤون الخارجية قد انخرط في محاربة المطبوعات في الصحافة الأجنبية ضد الإدارة العثمانية، وفي أغلب الأحيان كان يجري الرد على الأخبار للدولة العثمانية، ومنع دخولها إلى البلاد، مثلما حدث مع بعض الصحف الصادرة في مصر، مثل "فصل الخطاب" و"الأهرام" وغيرهما، وأغلب الصحف الصادرة في لندن وأثينا. وتؤكد الباحثة في هذا السياق أن عبد الحميد كان يدعم بعض المراسلين والصحف الأجنبية من أجل عدم نشر أخبار ضده.
وأخيراً، تعتبر دميرال أن الرقابة قبل وبعد عهد عبد الحميد الثاني، قد تركت أثراً كبيراً على ذاكرة الصحافة في تركيا، حتى جرى اعتبار يوم الرابع والعشرين من تموز/ يوليو، وهو ذكرى الانقلاب على السلطان عبد الحميد عام 1908، كيوم لحرية الصحافة، وهو ما يشير إلى نجاح وفاعلية نظام الرقابة الذي جرى تنفيذه، وإضفاء الطابع المؤسسي عليه في ذلك الوقت.