عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، صدر كتاب "وطنٌ من حرير: دورُ اقتصاد الحرير في العصر الحديث في تشكيل هويّة لبنان المعاصر" للباحثة فادية علي إسماعيل، والذي يتضمن مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة، تتمحور حول تأثير صناعة الحرير في جغرافية هوية لبنان الطائفية، وتشكُّل نظامه الاقتصادي السياسي، والنمو الديموغرافي للمسيحيين فيه.
تطرح فادية علي إسماعيل في مؤلفها هذا أسئلة تكوينية مصيرية، على غرار: مَن أكون؟ إلى من أنتمي؟ لماذا يتعدّد الانتماء في وطن واحد؟ ولماذا تفشل كلّ محاولة لتوحيد الانتماءات؟ مُعربةً عن رغبتها الشديدة في التوصل إلى أجوبة شافية وعميقة، وليس إجابات سطحية أو شوفينية تركن إلى المرويات الفولكلورية الشعبية، عبر العودة إلى جذور المسألة وبداياتها، فشاءت الصدف أن تعثر المؤلفة خلال بحثها على معلومات عن إنتاج الحرير وارتباطه بالحركات السكانيّة التي غيّرت الخريطة الطائفيّة في جبل لبنان، وكذلك بالهجرة الكبيرة منه في اتجاه الأميركتين، لدى المؤرخَين فوّاز طرابلسي وأكرم خاطر، وهما قضيّتان تحضران بقوّة في أي حديث عن مسار تشكيل الهويّة اللبنانيّة.
ومع متابعتها البحث، وقعت إسماعيل على كتابٍ لبطرس لبكي وصفته بأن "لا مثيل له في مجال التاريخ الاقتصاديّ للبنان"، إذ يفصّل اقتصاد الحرير في جبل لبنان منذ منتصف القرن التاسع عشر مع الأرقام ذات الصلة. وبانغماسها في البحث رأت إسماعيل ما كان للحرير من فضل في رسم وجه لبنان الاقتصاديّ، وارتسمت في مخيلتها خلال تنقّلها بين المصادر التي جمعتها صورةٌ واضحةٌ عن موضوع بحثها الجديد ووجدت أجوبة عن أسئلتها المتعددة حول الهويّة، فشرعت واثقة في تدبيج أفكارها في الكتاب.
ناقشت المؤلفة ما كان للحرير من فضل في رسم وجه لبنان الاقتصاديّ
تمهد المؤلفة لإيجاد أجوبة عن الإشكالية التي طرحتها في إثبات فرضية أن لإنتاج الحرير، وهو أهمّ الأنشطة الاقتصاديّة في جبل لبنان في فترة الحكم العثمانيّ، دورًا مهمًا في تشكّل هويّة الكيان اللبنانيّ الوليد، فقد تطوّرت هذه الصناعة تطوّرًا هائلًا في أواسط القرن التاسع عشر، حتى عمَّ خيرُها جميع أنحاء جبل لبنان، النواة التي شكّلت لبنان الكبير.
وقسمت إسماعيل فرضيّتها الكبرى إلى ثلاث صغرى، ووزّعت الحديث عنها في فصول الكتاب الثلاثة؛ فالفصل الأول خُصص لدور الحرير في تشكيل جغرافيا لبنان الطائفيّة عبر تتبُّع خريطة توزّع المسيحيين والشيعة في جبل لبنان منذ أيّام فخر الدين. والفصل الثاني، يتناول الأثر الذي تركه اقتصاد الحرير، بعد ارتباطه بليون الفرنسية ومصالح فرنسا الاقتصادية منذ أواسط القرن التاسع عشر، في نظام لبنان الاقتصاديّ - السياسيّ بعد الاستقلال. ويرصد الفصل الثالث أثر اقتصاد الحرير في النموّ السكّاني للمسيحيين (هجرة، ولادات، وفَيات) وهو الذي شكّل لبّ هواجس المسيحيين الديموغرافيّة في لبنان، وعكسَ تبنّيَ المجتمع المسيحيّ الثقافة الأوروبيّة مبكّرًا.
إن الأهداف التي توخت المؤلفة تحقيقها من خلال بحثها، بحسب تقديم "المركز العربي"، تقع في مستويات ثلاثة يتّفق ترتيبها مع الأبعاد المختلفة لدور اقتصاد الحرير في تشكّل الهويّة اللبنانيّة؛ المستوى الأول: اكتشاف خلفيّات تكوّن خصوصيّة الهويّة اللبنانيّة. والمستوى الثاني: تبرئة الانتماء الدينيّ للبنانيين من تهمة التسبّب في اقتتالهم وتباعدهم؛ إذ تنحو المؤلفة إلى اعتبار السبب في هذا تغير المصالح، التي تؤثر في التحالفات الخارجيّة والداخليّة، وتنشئ خلافات لم تكن موجودة وتفضّ تحالفات كانت مكرَّسة. والمستوى الثالث: تقييم الخيار الاقتصاديّ الذي التزمه أهل جبل لبنان وطوروه، ودراسة تأثير هذا الخيار في الأمد البعيد في بنية البلد الاقتصاديّة والسياسيّة، وفي العقليّة الحاكمة للبلد التي ظلت منذ تأسيس الدولة إلى اليوم (حوالى مئة عام) هي ذاتها، وإن تغيرّت الأسماء والطوائف.
المساهمة الجديدة التي أدخلها كتاب وطن من حرير، كما تقول مؤلفته، هو وضع قطاع الحرير اللبناني في محور سردية تاريخ لبنان لا على أطراف هذه السردية أو بصفته تفصيلًا صغيرًا، وكذلك الاستفاضة غير المسبوقة في ملاحقة جميع الخيوط التي ربطت هذا القطاع بتحوّلات الحياة في جبل لبنان: من الاقتصاد إلى الديموغرافيا والمجتمع والسياسة؛ ثمّ اقتفاء أثر هذه التحوّلات في هويّة لبنان المعاصر.
ومن المفيد الإشارة كذلك إلى أنّ الكتاب لا يقدّم تاريخًا شاملًا أو تفصيليًّا للحرير في المناطق اللبنانيّة، بل يعتني به من حيث مساهمته في صنع الهوية اللبنانيّة وحسب.
أما منهجية عمل الباحثة، فكانت الانطلاق في كلٍّ من الفصول من إحدى الفرضيّات الصغرى الثلاث السالفة الذكر، ثمّ استعراض المعطيات التاريخيّة المتعلّقة بها ومعالجتها وفق المنهج الاستقرائيّ بهدف استخلاص النتائج الجزئيّة منها في نهاية الفصل.
وقد جمعت إسماعيل في خاتمة البحث نتائج الفصول الثلاثة، واستنتجت منها ما يثبت فرضيّتها الأساسيّة أو ينفيها، مخالِفةً العرف القاضيَ بالشروع في دراسة الماضي الأبعد ثم السير منه قدمًا نحو الماضي الأقرب ثم الحاضر، إذ تعمّدت الانطلاق من دراسة الحاضر وفق الإشكالية وتوصيفه، ثم استعادة الماضي أداة لتفسير هذا الحاضر.
تعترف إسماعيل بمواجهتها صعوبات في أثناء البحث، إنْ في الجانب الاقتصاديّ الذي ليست على دراية به، أو في الفصل الأول الذي يتناول جغرافية لبنان الطائفيّة منذ فترة حكم فخر الدين، بسبب غموض مسائل متعلّقة بالحركات السكّانية وعدم وفرة المعلومات حولها. كما أنها عانت من ندرة المصادر العربيّة التي عالجت موضوع الحرير اللبنانيّ على صعيد الجبل، إضافة إلى تشتّت المعلومات حوله في الدراسات التاريخيّة حول لبنان، وعدم وجود الكثير منها في شبكة الإنترنت.
وتشير إسماعيل أخيرًا إلى أنها لم تستسغ الخوض في كتابها في موضوع النزاعات والهواجس التي طرأت على العلاقات بين طوائف لبنان، لدقّته والحرج من تناوله في لبنان، سواء من خلال إظهار هذه الطائفة بمظهر المعتدي، أو بمظهر المُعتدى عليه، ولذلك فضلت في البحث النظر إلى نزاعات اللبنانيين من جانبها المرتبط حصرًا بالحرير، أي حيث يكون الدافع إليها اقتصاديًّا وليس دينيًّا.
إن سرديّة الحرير التي تمكنت الباحثة من تشكيلها في الكتاب لا بد أن تصطفّ إلى جانب بقية السرديات وتدلي بدلوها في بناء سردية كبرى تساهم في إكمال فسيفساء الصورة التاريخية الناقصة عن حقبة من حقب تاريخ جبل لبنان ساهمت في تكريس عادات وتقاليد كثيرة توراثتها الأجيال، انعكست في اللغة والأمثال الشعبيّة وأسماء الأقمشة والعائلات التي امتهنت العمل بالحرير (قزّي، حلّال، فتّال، مكوكجي، ربّاط، مشّاقة ... إلخ)، وهو مجال متروك للباحثين لرصد هذه العائلات وانتشارها وحجمها، لرسم صورة أشدّ وضوحًا عن هذه الصنعة وعمّا تركته من أثر.