اغتيل غسّان كنفاني عام 1972. كان قبلها قد أصدر سبعة عشر كتاباً، بين مجموعات قصصٍ قصيرة وروايات وأبحاث. كانت فلسطين مدار جلّ هذه الكتب. إذا كانت رواياته، وعلى رأسها "رجال في الشمس"، قد ذاعت، فإنّ قصصه القصيرة لها قوامها وبنيانها وشكلُها الخاطف البارق، الذي يستنبش موضوعه من صور سريعة وإشارات تعود في معظمها، من قريب أو بعيد، إلى الوطن الأُمّ الذي فارقه وهو بعدُ طفل.
"عالَم ليس لنا" هي مجموعة قصص أصدرها كنفاني عام 1965، وتزامنت مع "رجال في الشمس" الذائعة، فقد كان فيها ما في الرواية من مخزون رمزيٍّ، ومن عودة، ولو من بعيد، إلى الموضوع الفلسطيني.
لا يصادف عنوان المجموعة أيّاً من قصصها، إنّه بحدّ ذاته يمتُّ إلى اللّجوء أو إلى الشتات الفلسطيني، أو يمتّ إلى تكالب العالَم على الفلسطينيّين، وحيادُه تجاه مأساتهم، وبالأحرى قبوله بها. العنوان إذن هو لكلّ المجموعة، ويكاد أن يكون رسالتها المضمَرة. وإذا عدنا إليها، فإنّنا سنجد رمزية الموضوع الفلسطيني تبرق من خلال أقاصيص، لم يخطئ ناشر المجموعة في اعتبارها مرايا، ففيها من المرايا الرسائل السريعة والمحمول الرمزي الخاطف.
البيت هو الوطن الذي لا يتنازل عنه الراوي ويرفض بيعه
قد تكون "العروس" - القصّة الأخيرة التي كُتبت عام 1965 وتسترجع الحرب على فلسطين عام 1948 - البندقية التشيكية التي انتزعها بطل الأقصوصة من ذراع المقاتل اليهودي القتيل، والتي هي كفلسطين نفسها، وربّما لم تكن سوى مرآة للمأساة الفلسطينية، اختفت بعد احتلال قرية صاحبها من قبل اليهود. الأمر الذي سيتكرّر مراراً، أربع مرّات، كانت فيها كتيبة من أربعين مقاتلاً تعاود استعادة القرية، وتخسر في كلّ مرّة عدداً آخر من مقاتليها الأربعين، فيما كان صاحبها "البندقية" يدور سائلاً عنها. السؤال نفسه لافت، فهو يسأل من يلتقيهم عمّا إذا كانوا قد صادفوا العروس. ليست العروس هذه سوى البندقية نفسها، والسؤال عنها سؤال عن فلسطين التي تختفي، لتعود ثانية وثالثة إلى الظهور.
إنّنا في عام 1965، أي قبل نكسة حزيران، ولا تزال فلسطين المغتَصبة وراء هذا البحث المحموم عن السلاح، ولا يزال السلاح في عزّ تصنيمه، لا يزال هو العروس وهو العيد وهو الغرض. في قصّة غسّان كنفاني ذلك الحلم الحربي الذي غطّى على المرحلة، وكان في الغالب وراء انتفاضاتها وانقلاباتها.
ليست "رأس الأسد الحجري" قصّة قتالية. هي من هذه الناحية ذات موضوعٍ آخر، هو رغم بعده واستقلاله يردّنا إلى مقابل فلسطيني، لا نتعب حتّى نجده. راوي الأقصوصة يشكو منذ البداية من فقره، فهو يعمل موظّفاً ثانوياً في صحيفة، وأورثه الفقر ديوناً على ديون. تتراكم فواتير الدَّين، ومن بينها قرض بخمسمائة ليرة. الرقم الذي يبدو هائلاً وقت الأقصوصة. مع ذلك، فإنّه لا يفكّر في بيع البيت رغم حاجته، ورغم مشورة أبيه، فهو يقاطع صديقه اللصيق عامر حين ينصحه بذلك.
هذه الواقعة تردّنا إلى البيت "تلك الرائحة العجيبة التي تفوح بلا سبب، في باحة دارنا، مزيج من الرطوبة القديمة ورائحة شجرة ياسمين… مزيجٌ خاصّ وغريب منذ درجت في الباحة طفلاً… رائحة تملأ الأنف والصدر وتتمشّى في العروق كأنّها الارتواء… وكان الصوت يأتي عبر الزجاج الملوَّن والشبابيك العالية… ثمّة عصافير كانت تختبئ بين الأغصان فلا تطالها إلّا عيناي، وكان أبي يقول إنّها عصافير تعرف شجرتنا كما نعرفها نحن".
الرائحة والأصوات وتلك العصافير التي هي من أهل الدار، كلّ ذلك يبدو وكأنّه يصل من الذاكرة، ناقلاً حنيناً عريقاً. البيت هكذا هو الوطن وهو الأهل، الرائحة هي كما نراها عند بروست تاريخ وذاكرة.
الأصوات تأتي من الخلف، هذا هو المكان الأصلي. البيت هكذا هو الوطن وفلسطين التي لا يتنازل عنها الراوي ولا يوافق على بيعها. ليس البيت سوى فلسطين، وحين نرى الراوي، رغم فقره، يستضيف جيمس في بيته، برضى والدته بخاصّة، فهي لا تمانع، رغم الفقر، استقبال الآخرين، هنا نجد فلسطين كريمة مضيافة، إنّنا أمام وطن عريق بقيمه وتراثه.
قصّة غسّان كنفاني، وهي تعود إلى البيت وإلى الأُمّ، هي أيضاً مقابل الرمزي لفلسطين الوطن والتاريخ. نقرأ "عالَم ليس لنا" بما يحمل العنوان من ضيم، من شعور بالعزلة، لكنّنا لا نزال أمام البيت، أمام المكان الأصلي، أمام فلسطين وهي تغدو رائحة وأصواتاً.
* شاعر وروائي من لبنان