ضمن سلسلة ندوات "من بيت لحم إلى غزّة سلام"، التي يُنظّمها "مسرح المدينة" في بيروت، قدّم، مساء الثلاثاء الماضي، الطبيب الفلسطيني غسّان أبو ستّة شهادتَه الحيّة في محاضرة أدارها الباحث صقر أبو فخر، حول الجرائم التي ترتكبها "إسرائيل" في غزّة، وبالأخص بالقطاع الصحّي.
انطلق أبو ستّة من رسالة صوتيّة وصلته من الطبيب محمد عبيد في غزّة، يُخبره عن حال "مستشفى العودة" في جباليا وحصار القنّاصة الصهاينة له، واستهدافهم لكوادره الطبّية، واعتقال المدير الطبّي للمستشفى، فضلاً عن الأطبّاء الشهداء الذي قتلتهم غارات إسرائيلية، مُوضّحاً أنّ كلّ هؤلاء يمثّلون صورة لنضال الكوادر الطبيّة.
وتحدّث الطبيب الفلسطيني عن وصوله إلى غزّة في التاسع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، ولكنّه لم يتمكّن من الوصول إلى "مستشفى الشفاء" حتى اليوم التالي، وبعد عشرة أيام من العمل في "الشفاء" التحق بالفريق الطبّي في "العودة"، مؤكّداً أن تنقّلاته هذه أثبتت له أنّ الهدف الأساسي من هذه الحرب بالنسبة للإسرائيليّين هو التدمير الكلّي للقطاع الصحّي.
المقاومة المجتمعية ترصُّ صفوف الناس في غزّة بوجه البربرية المُجرمة
وأشار إلى رسائل التهديد التي كانت تصل من جيش العدوّ إلى المستشفيات بغاية الإخلاء، وأنّ إدارات المستشفيات في غزّة أخذت تتواصل فيما بينها لرفض هكذا قرارات، التي تُسهّل في جوهرها عملية التطهير العِرقي.
وتابع أبو ستّة: في السابع عشر من تشرين الأول/ أكتوبر انتقلنا إلى "المستشفى المعمداني الأهلي"، بسبب ضغط عدد الجرحى والأسرّة القليلة في "الشفاء"، وفي تلك الليلة وقعت المجزرة التي راح ضحيّتها 480 شهيداً، وكانت بداية اختبار من "إسرائيل" للمجتمع الدولي. ورأينا القبول الأعمى من الإعلام الغربي للسردية الصهيونية، وبأن ما جرى كان نتيجة صاروخ فلسطيني، أُطلق بالخطأ. وبعدها بدأت السرديّة تتنامى حول السراديب وأنّ مقرّات المقاومة تحت المستشفيات. في ظلّ قصف مكثّف على مستشفيات الأطفال خاصة مثل "محمد الدرّة"، و"الرنتيسي"، و"النصر".
ولفت صاحب "سردية الجرح الفلسطيني" (2020) إلى أنّ تدمير القطاع الصحّي يُسهّل عملية طرد السكّان، وفقاً للعقيدة الصهيونية، فكلّما كانت تعود بعضُ المستشفيات للخدمة كان الإسرائيلي يستهدفها مجدّداً من خلال المُسيَّرات، وإطلاق النار على الجرحى الذين يحاولون الوصول إلى المستشفى، هادفاً إلى القضاء على جيل كامل من الأطبّاء في القطاع.
المجزرة لن تتوقّف إلّا حين تتهدّد المصالح الأميركية والإسرائيلية في الإقليم
لكنْ في المقابل هناك بطولات يوميّة يقدّمها الشعب، وكَمٌّ كبير من المقاومة المجتمعية، حيث يتشارك الناس بكلّ شيء تقريباً، في ظلّ غياب الرُّوح الفردية وظُهور الجماعة، في وجه البربرية المُجرمة. وما لم يستوعبه الإسرائيلي أنّ هناك شيئاً أسوأ من الموت بالنسبة للشعب الفلسطيني، وهو تجربة اللجوء، ومن هُنا نرى أن الكثير من الناس ما زالوا صامدين في شمالي القطاع لا يبرحونه، حيث اكتشف المحتلّ أنه غير قادر على إخراجهم.
وحذّر الطبيب الفلسطيني في محاضرته، من أنّ ما فشل الاحتلال الإسرائيلي بتحقيقه عبر الحرب، سيحاول إنجازه بعد انتهائها أو في أوقات الهُدَن، مثل مَنْع إعادة البِناء والإعمار، ومَنْع علاج أكثر من 55 ألف جريح. وبالتالي حين تأتي الهُدنة سيلعب على موضوع الحصار لتهجير الناس من القطاع.
وفي سياق حديثه عن التسجيل الذي يظهر فيه الفدائي الحافي في جُحر الديك، وهو يتسلّق الكثبان لضرب الدبابّة، أكّد أن واجبنا تجاه هذا الفدائي أن نحمي عائلته. خاصّة أنّ الأصوات الإسرائيلية، التي نسمعها اليوم، تحمل عقيدة المؤرّخ الصهيوني بيني موريس (1948)، الذي نادى بأولوية إنجاز المهمّات القذرة، ومن ثمّ التعامل، لاحقاً، مع التداعيات السياسية للجرائم المُرتكبة.
وختم أبو ستّة بأنّ المجزرة لن تتوقّف إلّا حين تتهدّد المصالح الأميركية والإسرائيلية في الإقليم، ومن هُنا تأتي أهمّية توسيع الحرب لتصبح حرباً إقليمية، فمُخطئٌ من يظنُّ أنّه غير معنيّ بالجرائم الإسرائيلية، "أنت تسكن بجوار قاتل، حتى لو لم تتعاطف مع ضحاياه، عليكَ أن تخاف من وجوده بجوارك، وبالتالي الأمر لن يتوقّف عند غزّة".