عِلَّة الديمقراطية الغربية

31 أكتوبر 2023
أم فلسطينية تتسلّم جثمان ابنها الشهيد من مشرحة مستشفى ناصر في خان يونس (Getty)
+ الخط -

إجماعٌ على واجب المقاوَمة الثقافية. هذا ما ذهبت إليه أفكار كتّاب ومثقّفين عرب من مختلف الأجيال والمشارب ممّن استطلعت "العربي الجديد" آراءهم حول ما يُمكن للثقافة العربية أن تُقدّمه وما هي أدواتها لخدمة قضاياها، وفي طليعتها قضية تحرير الأرض والإنسان التي تدور رحاها الآن في فلسطين معمّدة بدم أبنائها.


تَمُرُّ فلسطين اليوم بأكثر فترات تاريخها الحديث حُلكةً ومأساوية. ليس فقط لأنّ الاحتلال الإسرائيلي يُنفِّذ على أرضها سياسةَ عُنفٍ وتَهجير لا تَرحم، بل أيضاً لأنه يفعل ذلك بغطاء أميركي و"تَفهُّم" كبير مِن "العالَم الديمقراطي الحُرّ". إنّ ترسانة القيم والتشريعات التي يُدارُ بها عالَمُ ما بعد الحرب العالمية الثانية لا تُؤوَّل الآن بطريقة مُجحفة، وغير ديمقراطية بالمَرّة، كما حَدثَ في أكثر من بُقعة، وإنما تتعطَّل تماماً، بفعل آلةِ تقتيلٍ جهنمية، تَفتكُ، دفعة واحدة، بالفلسطيني الأعزل وبحُقوقه التاريخية والإنسانية. آلة تُحطِّم بيتَه فوق ضُلوعه، رامِيةً بالناجين في عراء الفزع والتيه والأسئلة المُقلقة.

تنام غزّة وتصحو، هذه الأيام، على القصف المجنون. آلةُ حربٍ مدمِّرة تخضعُ لإستراتيجِيّي العُنف في "إسرائيل"، الذين يُسوِّغون، بالقنابِل العمياء والإعلام المُسخَّر، سياسَة الحلِّ في القتل والتهجير. عندما يَتَعمْلَق العُنف، ويُصبِحُ برنامَجاً سياسياً وعسكرياً، كما يتجسَّد الآن أمام أنظار العالَم، فإنّه لا يَترُك المجال للسياسة. لا يُريدُ المحتلّ، وِفق هذا التمادي المجنون في العُنف، أن يَجلِسَ إلى طاوِلة مفاوضات كيان فلسطيني حيوي، وإنما يُريدُ الجلوس إلى كيان هشّ وجريح، يلفظ أمامه آخر أنفاسِه السياسية. السياسة بهذا المفهوم تُتوِّجُ ما شَرَّعَتْه آلَة الحرب، لِتُضفي على نتائجها الكارثية غِطاءً "سياسياً" لا يُقنِع أحداً، ولكنّه يتماشى مع نفاق الغرب "الديمقراطي"، الذي لا تتحرّك حساسيته الإنسانية عندما يُحرَق أطفال فلسطين وجرحى مستشفياتها.

عِلَّة الديمقراطية الغربية، لا تكمُن في نُصرة" إسرائيل" فقط، بل في سياسة الكيل بمكيالين

إن "العِلَّة" التي تَنخر "العالَم الديمقراطي"، اليوم، لا تحتاج إلى مَزيدٍ من الشرح. كُلُّ قَصفٍ إسرائيلي يَعجِنُ البُيوتَ فوق ساكنَتِها المرعوبين، فإنما يُضيفُ كَلمة فصيحة إلى البيداغوجيا السياسية لِلمُعلِّقين الشرفاء. يُفاقِمُ المُحتلُّ سياسَة القمع والاستيطان والتخريب، ضارباً عرض الحائط المواثيقَ والاتفاقيات، واجداً، في كلّ فِعل مُقاوِم، في كُلِّ خلجة مُقاومة، فُرصة لِتنفيذ سياسَة أعنف، لا تَجِدُ أيُّ فُرصةٍ للسلام إلّا في ابتلاع الأرض وتهجير السكان. عِلَّة الديمقراطية الغربية، لا تكمُن في نُصرة" إسرائيل"، في كلّ ظرف وشرط، ولكن في سياسة الكيل بمكيالين، التي يذهب ضحيتَها أطفالٌ ليس لهم الحقّ في التفتُّح والحياة، مثل كلّ أطفال العالم.

إنّ هامش الفعل الثقافي، في هذا الواقع، المُوجَّه بِقوة الآلة العسكرية والإعلامية، يبقى صغيراً جدّاً، وقد لا يُعطي بعض النتائج المَرجوّة منه إلّا على المدى المُتوسّط والبعيد. لكنه، يبقى أحد أسلحة مَعركة البقاء بالنسبة إلى الفلسطيني. ولذلك، يَتعيَّن على المُؤسّسات الثقافية العربية أن تدعم أكثر المحتوى الثقافي المُقاوِم في الإعلام وأجناس التعبير الفنّية المختلفة، خاصّة منها ذات التوجّه والامتداد الجماهيري، مثل السينما والكاريكاتير والتصوير الفنّي والفوتوغرافي والمسرح والدراما التلفزيونية. ويَتعيَّن، أن يُسخَّر المالُ اللازم، مِن قبل مُؤسّسات الإنتاج، لِتُقدِّم مادّة ثقافية وفنّية تَحترم ذكاءَ المُتلقّي العربي، وتُدعِّم سَرْدِيَّة المُقاوَمة بكل ما يَشفع لها من وثائق وبَحثٍ تاريخي ونفاذٍ في المقاربة والتحليل. هذه المادة الثقافية تبني حبكة تشدُّ الأنفاس وتُفتِّح الوعي أكثر بِشرط الإنسان والقضية.

يَتعيَّن أيضاً، أن تُضافِر مُؤسَّسات النَّشر العربية جُهودَها لِخدمة السَّردية الفلسطينية (وهي صاحبة حقّ)، مِن خلال إعادة طبع ونشر كلاسيكيات الأدب الفلسطيني، في الشعر والرواية والقصة (وقصص الأطفال) في كُتب جميلة وجَذّابة، تكون زَهيدة الثمن، وفي مُتناول فئات واسعة مِن القراء. على أن تُرافِقها ندواتٌ وبرامج في الإعلام والفضاءات الثقافية المختلفة، لِتحويلِها إلى مادة للاستمتاع والتثقيف وصناعة الرأي، خاصّةً عند الأجيال الجديدة، التي تبدو مُنغمِرة أكثر في سياقات التواصل والثقافة الإلكترونية السطحية، ومُنقطعة، بشكل كبير، عن منابع الثقافة، القومية والوطنية، الجادّة والعميقة. 

يَتعيَّن، بذات القدر، مُضاعفة الجهود لتَرجمة الأدب الفلسطيني (والعربي المُرتبِط بالقضية)، قديمِه وحديثِه، إلى اللغات الإنسانية الحية، والأكثر تأثيراً في صناعة رأي ثقافي عالمي. ويَنبغي الحرص على تقديم أجود الأعمال والمؤلّفات الفلسطينية، من حيث البناء والنضج الفنّي، لأنّ القارئ الغربي، مُزوَّد بذخيرة ثقافية عَريقة ومُتجدِّدة، فهو يَفتَرِضُ مُستوى فنّياً لائقاً، لا يَنبغي للأعمال المُقترَحة للترجمة أن تُخِلَّ به. لذلك، فكل جهدٍ مبذول، في هذا الباب، ينبغي أن يبقى مُحصَّناً ضِد الأهواء الفردية، الصغيرة، التي لا تخدم في أيِّ شيء فكرة نبيلة وعادلة. 

ويَتعيَّن أيضاً، وبقوّة، دَعم الإنسان الفلسطيني، في هذه اللحظة الحرجة من حياته، ليبقى صامِداً فوق الأرض، مُتشبّثاً أكثر بحقّه، مقاوِماً سياسة التهجير، وذلك بتخصيصِه بجوائز عربية، ربما ترتبط بالحرف والفنون التقليدية، الكاشِفة عن الهوية الفلسطينية. كما، يتعيّن مكافأة الذكاء الفلسطيني في كلّ المجالات، ولِمَ لا التفكير في سَن جائزة عربية دولية خاصّة بالأدب الفلسطيني المُعاصر، مع ما يُرافقها من أعمال الترجمة والتكييف السينمائي أو الفنّي، مع دعم إعلامي مدروس وموسَّع، يجعل الفائز بالجائزة والهوية التي يُمثّل ترسَخ أكثر في الوجدان العربي والإنساني، بما يخلق شروطاً أوسع للتعاطف النبيل مع القضية الفلسطينية.


* شاعر وناقد من المغرب

هذه المادّة جزءٌ من ملفّ تنشره "العربي الجديد" بعنوان: "الثقافة العربية واختبار فلسطين... ما العمل؟".

لقراءة الجزء الخامس من الملفّ: اضغط هنا

المساهمون