استمع إلى الملخص
- البطيخ يبرز كرمز للهوية والمقاومة الفلسطينية، يتحدى قيود الاحتلال ويعبر عن الصمود، متجاوزًا الحدود ليصبح علامة على النضال الفلسطيني عالميًا.
- الإبداع الفلسطيني يواجه قيود منصات التواصل الاجتماعي بالفن والخيال، متجاوزًا الحواجز لنقل قضيتهم، مؤكدًا على قوة الروح الفلسطينية وقدرتها على الصمود والتجدد.
على الرغم من كون لون البحر، الذي يحدّ فلسطين من الغرب، أزرقَ، إلّا أنّ الأزرق يظلّ لوناً مذموماً في الوجدان اللوني لدى الفلسطينيّين. هذه ليست مزحة، أو مراكَمة شعاراتية يبتكرها ذهنُ من يتنفّسون دخان الحرب هذه الأيام. ثمّة مقاربة أُخرى: الحروف، ثمّة وجدان كلامي أيضاً، أو لِنقُل صوتياً، يذمّ حروفاً مثل الخاء والشين، وهي الحروف المؤسِّسة للغة "العابرين على ثريّات المدى السكّري" في بلادنا، الذين ما إن تسمعهم يتكلّمون، حتى تتنطّط هذه الحروف في أُذنيك مثل أصوات زائدة عن حاجة اللغة أو الحوار أو اللحظة الضيقة التي إمّا أن تكون لحظةً على حاجز طويل في ظهيرة قائظة، أو لحظة تكون فيها أنت، أو أحد أحبّائك، معتقلاً لديهم ومرحَّلاً في سيارة مع جنود متجهّمين بفطرة القمع والاحتلال إلى جهة لا تتبيّنها.
هكذا تفعل لحظةُ الاحتلال الطويلة والمستمرّة منذ ستّة وسبعين عاماً فينا، وهي اللحظة التي أُريدَ لها أن تحتلّ، من جملة ما تحتلّ، العقل والجسد والوجدان والصوت الذي نسمعه والهواء الذي نتنفّسه، حتى تغلغلت في زوايا بعيدة لا يُقبض عليها إلّا بالتأمّلات الطويلة التي تليق بزمن السجن الذي يمتدّ على الوقت ويفرد جناحيه على الإحساس والألم الذي لا يتوقّف.
وإذا كانت لحظة الاحتلال قد أفضت إلى تأمّلات عجائبية لا يقبض عليها إلّا الفلسطيني بالفهم والدلالة في ظرفه الخاص، فقد كان العَلَم أحد هذه التأمّلات، إذ كيف تفهم أن يأخذ البطّيخُ، باعتباره فاكهة الصيف الفلسطيني الذي تقلّب طويلاً أسفل شمس مرج ابن عامر في الشمال، وحاضن ألوانه الأربعة بقدرة قادر، هذه المكانةَ، ليس في الحيّز الفلسطيني من البحر إلى النهر وحسب، بل عبوراً للقارّات من غربها إلى شرقها، ومن شمالها إلى جنوبها، محمولاً على رايات تُشاكس البوليس السرّي والعلني والجيوش التي تجنّدت لحربها ضدّ كلّ رمز فلسطيني.
يعود المنع تحت مسمّى معايير منصّات التواصل الاجتماعي
تمرُّ على ذهني هذه الأيام قصّةُ المقابلة التي طلبها قائد قوّات الاحتلال في الضفّة الغربية بُعيد الاحتلال عام 1967، مع مجموعة من الفنّانين الفلسطينيّين ليُملي عليهم شروطه عندما كانوا بصدد إنشاء ما يُشبه اتّحاداً عامّاً للفنّانين أو رابطة تجمع هؤلاء الذين كان من بينهم سليمان منصور وعصام بدر ونبيل عناني. وكانت جملة الضابط الإسرائيلي واضحة وقاطعة: "يُمنع عليكم رسم أو تشكيل أو تصوير أيّ شيء له علاقة بالعَلَم الفلسطيني، بألوانه الأربعة، بالترتيب أو بغير الترتيب، حتى لو كانت عبارة عن نقاط متناثرة على صفحة، ودعوني أقول لكم أيضاً: ممنوع عليكم أن ترسموا حتى بطّيخة!".
ارتطمت المفردة على الطاولة التي تفصل الفنّانين عن الضابط الذي لا يُتقن إلّا لغة التجهّم مثل طرقة على باب يفضي إلى حديقة: بطّيخة!
اليوم، يعود العسكري المسلّح بالبندقية والهراوة، والذي فرَد أوامره وشروطه على طاولة الاجتماع في ذلك اليوم، مع فنّانين أرادوا ان يُنشئوا اتّحاداً لهم، يعود مرّةً أُخرى، يعود افتراضياً هذه المرّة، ناعماً وأزرق تحت مسمّى "معايير مجتمع منصّات التواصل الاجتماعي" التي تقمع اللون والعلَم والفكرة، تُزيحها جانباً، وتفرد للأزرق السماوي البشع مساحةً لا يحدّها نهرٌ ولا يمنعها بحر من التسلّل إلى كلّ مكان.
ولكنَّ الذهن البشري "الفنّان" في قدرته على خنق الفكرة والرقابة على اللون وتسييج الأفق، فنّانٌ أيضاً في قدرته على التجاوُز وابتكار الحيلة التي تُواجِه المنع بالإبداع والخلق والقفز على الجدار، بالاستعارة من الجدار الذي بناه كيانُ الأزرق على بطّيخنا، فصارت وظيفته مشاهدة القفز من أسفل.
أُشاهد بطّيخة فلسطين وهي تتدحرج على أكتاف ورؤوس المحتجّين الغاضبين في كلّ العالم، بطّيخة كاملة، أو "مشقوحة" مثل التي تجدها على موائد المخيّمات والقرى الصغيرة في أيامنا هذه، وأتذكّر زماناً تجوّلتُ خلاله في السهل، حين كانت للسهل رائحة لا تُخطئها أنوف الخائفين، رائحة بطّيخ يخبز نفسه على حرارة شمس تمّوز، ويوزّع خيره على المارّين، وعلى الأفاعي، وعلى أقدام الهاربين من الأزرق السماوي، ومن حروف تتطاير بالخاء والشين في كلّ مكان.
* كاتب من فلسطين