استمع إلى الملخص
- غابت كتب مهمة عن النقاش العام، مثل كتب عزمي بشارة وعزيز العظمة، بينما ظهرت موجة جديدة من أعداء العلمانية في وسائل التواصل الاجتماعي، مما يعكس سوء فهمهم للمفهوم.
- يتبنى أعداء العلمانية مقولات مغلوطة، متجاهلين أن العلمانية تتطلب ديمقراطية، مما يعكس قمع الفكر وحرية التعبير في ظل سعي المجتمع لبناء دولة ديمقراطية.
باتت الثقافة، اليوم، أكثر مسؤولية تجاه مهامها الدائمة والعاجلة، كما باتت مشغولة بقضايا كثيرة لم يكن مسموحاً من قبل بالاقتراب منها، أو لم يكن بوسع المثقّف أن يُقاربها لأنّ السلطة استولت عليها، أو ادّعت تبنّيها، ومنعت النقاش الخاص أو العامّ حولها.
العلمانية، مثلاً، هي واحدة من القيم التي كان المثقّفون السوريّون، والسياسيّون خارج السلطة، يناقشونها قليلاً، من دون أن يتعمّقوا في معانيها، أو أشكال تطبيقاتها في المجتمع. ولم تكن الكتب الكثيرة التي صاغها المفكّرون العرب، أو تلك التي تُرجمت إلى العربية قد نالت شعبية في القراءة. واللافت، في غياب أيّ إمكانية واقعية لتجربة العلمانية من قبل، أن يقتصر نقاش النخَب السورية، في هذا المجال على الجدل الشفوي حول وضع الحركات في كلمة العلمانية، فهل هي عَلمانية بفتح العين، أم هي عِلمانية بكسرها؟ دون أن يذهب أحد إلى الدلالات.
وهكذا غاب كتاب عزمي بشارة الذي صدر في ثلاثة أجزاء، "الدين والعلمانية في سياق تاريخي"، وكتاب عزيز العظمة "العلمانية من منظور مختلف"، وكتاب صادق جلال العظم "الإسلام والنزعة الإنسانية العلمانية"، وكتاب فرج فودة "حوار حول العلمانية"، وكتاب كمال عبد اللطيف "التفكير في العلمانية"، وكتاب صقر أبو فخر "أعيان الشام وإعاقة العلمانية". وكلّ واحد من بين هؤلاء المفكّرين لا يقول إنّ العلمانية مُلحدة، أو إنّها ضدّ الدين، كما في التبسيط المُخلّ، والعِدائي، الذي يتسلّح به، بالمعنى الحَرفي للسلاح، وأضراره، أعداء العلمانية الجُدد الذين ظهروا في ساحات التواصل الاجتماعي في سورية بعد سقوط النظام.
تبسيط مُخلّ وعِدائي يتسلّح به أعداء العلمانية الجُدد
ولعلّ كلا الطرفين اللذين يبدوان متعاديَين اليوم (أي أنصار العلمانية، وأعداءها، في سورية) أكثر من أي زمن مضى ـ ذلك لأنّ استحقاقات بناء الدولة أضحت أمامنا في البيت والشارع والوزارة وكرسي الحُكم ـ لم يطّلعا على تجارب العلمانية في العالم، فتطبيقات العلمانية ليست واحدة في جميع الدول، وهناك تجارب متباينة، ومتنوّعة، وغنيّة بالفوائد في أكثر من بلد في العالم.
واللافت أن يتبنّى أعداء العلمانية اليوم المقولات الغربية عن أنّ الإسلام يُعادي العلمانية، والمعلوم أنّ العلمانية لا يمكن أن تُطبَّق في أيّ مجتمع في غياب الديمقراطية، وهذا يعني أنه يُعادي الديمقراطية أيضاً. ولهذا يبدو الأمر مشبوهاً للغاية، حين يشنّ هذا الخليط العجيب من الناس حملة بشعة ضدّ العلمانية، وأن يتّهم كلّ من يرفع شعار الدولة المدنية بأنّه من "فلول النظام البائد"، وهو عَرَض آخر مغرض من أعراض العداء للديمقراطية، إذ لم يكن النظام السوري علمانياً في أيّ يوم، حتى لو حاول أن يظهر كذلك، أو حاول دُعاته من مثقّفين تابعين، ولهُم الدور الأوّل في تشويه المصطلح وتزييفه، أن يؤكّدوا ذلك، لأنّه كان نظاماً قمعياً، استبدادياً، معادياً للديمقراطية، ولا علمانية بدون ديمقراطية. كما لا يمكن للديمقراطية ألّا تكون علمانية، تمنح حرّية الاعتقاد للجميع، ولا تجعل من أيّ دين سلطة، بل إيماناً وعلاقة روحية بين الإنسان وربه.
لا يلاحظ المتحمّسون ضدّ العلمانية، بينما نسعى معاً لبناء الوطن الجديد، أنّهم يستعيدون أسوأ تقاليد السلطة القديمة البالية، أو سياسات حزب البعث الشمولي، في قمع الفكر، أو الحجر على حرّية التعبير.
* روائي من سورية