عملتان بوجه واحد

10 يونيو 2023
نبيل عناني/ فلسطين
+ الخط -

الجرّافة والقبر

المقبرة التي أتحدّث عنها ليست كباقي المقابر. فالقبور فيها ليست مبنيَّة ومطليَّة بالجِير، ولا تعلو رؤوسَها شواهد. إنّها عبارة عن أكوام من التراب لا تلبث أن تستوي مع الأرض بفعل المطر، فإذا هي رُموس يكسوها القُرّاص. ومع ذلك فقد كانت ذات رهبة خاصة، لا تجهلها حتى الكلاب الضالّة التي لم تجرؤ قطُّ على دخولها أو حتى النباح بجوارها، وهي رهبة يعرف عنها أهلُ المنطقة حكاياتٍ لن تمحوها جرّافة النسيان.

كانت المدينة تزحف باتجاه المقبرة، فالهكتارات تتحوّل إلى أمتار مربعة، والفضاء إلى أمتار مكعّبة، بينما الحشائش والقبّرات والأشجار والثغاء وجرار الماء... تترك مكانها، متراً فمتراً، لعائلة الإسمنت التي لشجرتها جذور من حديد.

كانت الجرّافة تُزمجر في وجه المكان، وكانت أسنانها العملاقة تنغرز في لحم الأرض فتُرديه غبارًا. وحين جاء دور المقبرة كان أهل الموتى قد تحلّقوا حولها، لا يملكون سوى قلوبهم لتغيير مُنكر كهذا.

القرّاص، والتراب، فالأحجار، والرّفات، وسط ذهول الجميع.

الجرّافة تتلو رسالة المَحْوِ، والناس يُتمتمون بعض الآيات والأدعيّة.

الجرّافة تغتصب المكان.

الجرّافة تفتضُّ الموتى.

الجرّافة تقتلع الموت وتكوّمه بعيدًا.

فالجرّافة تتوقّف فجأة. يُشغِّلها السائق فتَأبى. ثم يُحاول فتَأبى.

الجّرافة لا تتحرّك قيْد عظم.

ثم بدأ الهمسُ يَسري. أكثر من حكاية كانت تجري على الألسنة. ولعلّ أكثرها تداولًا تلك التي تقول بوجود أحد أولياء الله في المقبرة، ولا بدّ أنّ الجرّافة تعطّلت عند رُفاته.

وتوقّفت الأشغال. 

وبدل الجرّافة جاء رجال محترمون بسيارات محترمة وأجهزة لا تزمجر. ذهب هؤلاء وجاء آخرون. وصارت للناس حكايات غريبة عن المكان، يتداولونها في ما بينهم بخشوع واضح: الغرانيت، والجيولوجيا، والبازلت... وكلمات أُخرى لا يذكرونها وربّما كانت صعبة النّطق.

وفي رواية أُخرى، إنّ الجرّافة تعطّلت عند ذلك القبر، وقد بدأ ينزف دمًا... والله أعلم.


■ ■ ■


سيدي بليوط

حدّثنا حسن بن محيي الدين الشيكي، قال: حدّثني أحد الرجال الثِّقات، قال: حدّثني جدي، قال: في أحد الأيام من أوائل القرن العشرين بعد الميلاد، سقطت في إحدى ساحات الدار البيضاء طائرة مروحية، وهي من بنات الهواء التي كانت قد ظهرت في ذلك العهد، فتحلّقت للتوِّ حولها حشودٌ من الجلابيب والعمائم. وبينما هم يُغمغمون في ذهول، شقَّ طريقه بينهم أحد المعمّرين الفرنسيّين، وما إن وصل إلى حطام الطائرة حتى صرخ: c’est un pilote. فردّد الحشد من حوله بخشوع: سيدي بليوط. ولقد أُقيمت للرجل جنازة تليق بوليٍّ من أولياء الله، ومن يومها صار له ضريح مثلهم، كما صارت تُعزى إليه الكثير من الكرامات. ولعلّ أشهرها أنّ الأُسود كانت تخشاه حتى سُمّي "أبو الليوث"... والله أعلم.


■ ■ ■


صومعة لا تُتَصَوّر

للوليّ الصالح بن صالح، كغيره من أولياء الله الصالحين، ضريح بصومعة يعود إليها الفضل في شهرته. وإذا كانت الصومعة هي سبَّابة المسجد المرفوعة تحية زكيّة إلى الله تعالى، فإنَّ سبَّابة بن صالح، فضلًا عن كونها كذلك، تتمتّع بحصانة ليست لغيرها في كلِّ بقاع الدنيا. فهي صومعة ذات كرامة يعرفها الجميع تقريبًا. ففي مدينة سياحية تعجُّ بالنصارى، وهم الأجانب من غير المسلمين، لم يستطع نصرانيٌّ واحد عبر التاريخ أن يلتقط لها صورة، الشيء الذي جعل منها صومعة لا تُتَصَوَّر.

جلستُ مؤخّرًا إلى صديق قديم يهتمُّ بفنون التصوير والآثار... وكَم كانت دهشتي صغيرة حين أخبرني بأنّه حصل على صورة للصومعة، ولَكَم ضحكنا. لم أسأل صديقي عمّن التقط الصورة وهل هو مسلم أم نصراني. لكن الحديث جرّنا إلى موقع الضريح بين الأزقّة العتيقة والدروب الضيّقة، وكيف أنّ أمكنة مماثلة لا تُتيح للسائح زاوية مناسبة لتصوير الصومعة، وما على مَن أراد أن يأخذ صورةً لها إلّا أن يصعد إلى سطح أحد البيوت المجاورة حتى يتسنّى له ذلك.

إنّ أبناء المنطقة حيث توجد الصومعة يشاهدونها متى شاؤوا، ويسمعونها خمس مرّات في اليوم، لذلك فهُم ليسوا بحاجة إلى تصويرها. والسائحون من بلاد الإسلام يملكون في ربوعه مئات الصوامع والمنائر، ويملكون أن يصوّروها متى أرادوا ومن زوايا مريحة. أمّا النصارى فغالبًا ما يكترثون فقط لمعالم المدينة الوارد ذكرها في "الدليل الأزرق"، وليس بينها صومعة بن صالح قطعًا.

والصورة التي تحدّث عنها صديقي؟

ربّما كانت لصومعة أُخرى... والله أعلم.


■ ■ ■


سنجير والشمس

السيدة سنجير امرأة في العقد الخامس من العُمر، تعمل أستاذة لعِلم النفس بموجب عقد طويل المدى، ما جعلها تحتكُّ بالناس من كلّ صنف، بدءاً بطلَبَتها وليس انتهاءً بجُوَيْراتها في العمارة.

كانت السيدة سنجير ديكارتية حتى النخاع الشوكي، فهي تُعمل عقلها في أشدّ الأمور بداهة. ولمّا كان البلد الذي تعمل فيه مشدودًا إلى وتد الماضي بأكثر من حبل، فقد وجدت صعوبة جمّة في التواصُل مع أهله. وبمرور السنوات اكتسبت بعضًا من عاداتهم، فقد تعلّمت اللغة مثلًا، كما صارت تشتري حاجيّاتها من الأسواق الشعبية وتُناقش الأثمان كأيّ امرأة حاذقة...

كانت للسيدة سنجير آلة خياطة يدوية قد ركنَتها في غرفة للمُهملات. وكلّما احتاجت أن ترفو ثوبًا لها أو لإحدى جاراتها كانت تُخرجها، وحين تنتهي منها تُعيدها إلى المكان نفسه.

مرّة جاءتها إحدى نساء العمارة ببعض ملابس الأولاد ورَجَتها أن تنقذ ما يمكن إنقاذه، فالفصل شتاء وهي لا طاقة لها بالشراء كما لا طاقة للأبناء بالصّبر. أخذت السيدة سنجير الملابس واعتبرت الأمر واجبًا، لكنّها حين أخرجت آلتها وجدتها معطّلة، فقد حاولت وحاولت... لكن دون جدوى. فما كان منها سوى أن أخذت الملابس وقصدت الجارة. وحين فتحت لها الباب أخبرتها، وكلّها حرج، بأمر الآلة، فطمأنتها جارتها قائلة: إلى السطح إذن، فآلتُك تعاني من نقص في الشمس.

وتعاونت المرأتان على آلة الخياطة وصعدتا بها إلى سطح العمارة. وبعد ساعتين أو ثلاث من الشمس عادتا بها إلى البيت. وكم كانت دهشة السيدة سنجير كبيرة، وهي ترى آلتها تشتغل.

السَّيِّدة الديكارتية حتى النخاع وجدت نفسها أمام معضلة تفسير الأمر. فبدأت تفحص آلتها من كلّ الجهات ولم تستطع أن تخفي حيرتها... وأخيرًا عزَت حالة اكتئاب الآلة إلى دائرة مطاطية، لا بدّ أنّها كانت في حاجة إلى حرارة الشمس، حتى تصيرَ أكثر مرونة، وتُتيح للآلة أنْ تدور وللإبرة أنْ... والله أعلم.


■ ■ ■


براطيل

لقد كان بسافون مجرّد راعٍ في زمن كانت الآلهة فيه تتحدر من صلب الأسطورة. ولأنّه كان راعيًا بوَهْم إلهٍ، فقدِ اختار له ترائب الإشاعة مَهبِطًا. فقد كان يجمع حوله العصافير ويلقّنُها كيف تصدح باسمه مردِّدةً بين الناس: إنّه إله هو الآخر.

مع توالي العقود والأحقاب، صار لبسافون أحفاد وأسباط.. وصار لعصافيره بيض كثير يفقس في أعشاش الباطل.

أما العبارة المعروفة "عصافير بسافون"، فقد صارت بدورها إلى عبارة أشد بلاغة هي "البراطيل تنصُرُ الأباطيل". 

وصار لعصافيره بيضٌ هي "البراطيل تنصُرُ الأباطيل". والبراطيل في بعض المدن المغربية تعني العصافير، ما يحملنا على الاعتقاد أنّ بسافون كان جمعًا بصيغة المفرد. ولا بدّ أنّ نسخته العربية كانت الأشدّ خصوبة، وإلّا من أين جاء هذا العدد الهائل من الرُّعاة، الذين هُم أوّل من يُصدِّق عصافيرهم غير المُجنَّحة؟

أما البِرطيل عند أشقائنا المصريِّين فهو الرشوة، وهو من فصيح اللغة العربية، وعلاقته بالأباطيل لا تخفى على راشٍ ومُرتشٍ ولا على شيطان أخرس. وحتى لا تفسد علينا المقارنة السابقة، سنعتبرها الرّشاوى التي تقاضتها العصافير النّهمة مقابل نشر الرسالة، رسالة بسافون التي وَجَدت على مرّ العصور مَن يدعو إلى تعاليمها... والله أعلم.


* شاعر وكاتب من المغرب

موقف
التحديثات الحية
المساهمون