علي الريامي: العربية بين الجاحظ وابن عبد ربه

20 مارس 2022
زخرفة إسلامية على واجهة مسجد قرطبة (Getty)
+ الخط -

لعبت عوامل متعدّدة في تطوّر الدلالة خلال العصر العبّاسي، مع ظهور مسمّيات مستحدثة لموادّ وأشياء لم تكن معهودة من قبل، وتمّ اقتراض بعض المفردات من لغات أخرى للتعبير عنها، كما تغيّرت معاني مفردات عربية أخرى نتيجة التحوّلات الاجتماعية والاقتصادية لتُناسِب السياقات الثقافية الجديدة.

ولأنّ اللغة انعكاس للمجتمع، بدتْ تلك التغيّرات تعبيراً مكثّفاً عن ازدهار الدولة واستيعابها لشعوب وأمم مختلفة، وتبدُّل العديد من القيم الذي أدّى إلى اختلاف النظرة إلى سلوكيات وأفعالٍ ومشاعر، فانزاحت دلالات كلمات عن المتداولِ استخدامُه، لتُجترَح مجالات مغايرة للتعبير عنها.

يقرأ الباحث العُماني علي بن حمد الريامي، في كتابه "حركة ألفاظ الحضارة العربية: من بيان الجاحظ إلى عقد ابن عبد ربه"، العلاقة بين اللغة والحضارة مع تطوّر المجتمع المدني والفكري وما تركه من تأثير على اللغة في مختلف استعمالاتها.

الكتاب الذي صدر حديثاً عن "الآن ناشرون وموزعون" و"الجمعية العُمانية للكتّاب والأدباء"، يعتمد مؤلَّفَيْن، أحدهما اشتمل على الألفاظ الدالّة على مظاهرة الحضارة العربية في المشرق واعتُبر كتاباً مؤسّساً في علم البيان وفلسفة اللغة، وثانيهما موسوعة عِلمية وأدبية ظهرت في الأندلس، جامعةً نصوصاً شعرية ونثرية والأمثال والأخبار والحكم والنوادر التي جرت على لسان العامّة والخاصّة على حدّ سواء.

ويعتمد الريامي مفهوم "ألفاظ الحضارة" التي يحصرها في الألفاظ المادية المحسوسة التي ابتدعها الإنسان، وأضافها إلى قائمة ألفاظه التي يستعملها في حياته اليومية بعد انتقاله من بيئة إلى أخرى، في محاولة لكشف المعنى المعجميّ الدقيق لألفاظ ضمن إطار الحقل الدلاليّ الواحد. ويركّز على ثلاثة مظاهر أساسية تتمثّل باتساع الدلالة مع ازدياد معاني اللفظة الواحدة التماساً لأيسر السبُل في الكلام، والانتقال الدلالي بحيث تكتسب المفردة معنىً جديداً مغايراً لمعناها القديم، وضِيْق الدلالة الذي يعكسه اقتصار مدلول الكلمة على أشياء تقلّ في عددها عمّا كانت عليه في الأصل، وهي بذلك تخرج من المعنى العام إلى المعنى الخاص، وشاع ذلك في المطعومات والمشروبات على وجه الخصوص، بفعل الازدهار الذي عاشه المسلمون وأنتج أصنافاً أكثر ودقةً أعلى في استعمالها.

يتتبّع تحولات الألفاظ الدالة على السكن والأزياء والحروب

يُخصّص الفصل الأول لدراسة حقول الألفاظ الدالّة على البيوت والدور والقصور ومقتنياتها ومتعلّقاتها، عبر استعراض المرّات التي تكرّرت فيها مفردات مثل "الفخّار" و"السقيفة" و"الديوان" و"القبّة" و"المنزل" و"المحراب" وغيرها، مع تبيان المعاني في سياقاتها الجديدة وذكْر مصادر اقتراضها من لغات أخرى أو اشتقاقها من العربية نفسها.

ويبيّن المؤلّف أنّ العديد من الألفاظ المتعلّقة بالسكَن اتّسعت دلالتها، وخيرُ مثال على ذلك مفردة "الدار"، التي تعدّدت معانيها إلى تسعة، منها: الحياة الدنيا، والبيت، والقصر، والبلد، ودار المحبوبة، والسجن، والجنّة، وبيت الإمارة، وواقعة مقتل عثمان بن عفّان. بينما انتقلت دلالة مفردات مثل "المنبر" ــ الذي كان يعني المكان المرتفع ــ ليدلّ بعد ظهور الإسلام إلى المكان المرتفع في المسجد، وضاقت دلالة كلمات مثل "السور" الذي بات يعادل الجدار أو الحائط بعد أن كان يدلّ على معان أكثر.

وتُناقش الفصول الأربعة اللاحقة الألفاظ الدالّة على المطعومات والمشروبات والأواني والأوعية ومتعلّقاتها، وكذلك على الأقمشة والملبوسات والثياب، وعلى المواد والأدوات المتعلّقة بوسائل معيشة الإنسان والمعادن والأحجار ومتعلّقات الدواب، والجيوش والحروب والأسلحة.

ويلاحظ الريامي أنّ تقاطعات عديدة في ألفاظ الحضارة العربية بين "البيان والتبيين" للجاحظ و"العقد الفريد" لابن عبد ربه، بالنظر إلى اعتماد الحضارة الأندلسية في بداياتها على حضارة المشرق فكرياً ومادّياً وثقافياً وعلمياً، لكنّ الاختلاف تزايد مع تقادم الزمن.

المساهمون