لا حدود للماء، فوحده يقدر على تشكيل عناصر شتى في الطبيعة، ويعطيها شيئاً من صفاته، تاركاً أثره الخفيف في أمزجتها. هذا ما تُمكن ملاحظتُه في معرض التشكيلية اللبنانية عفاف زريق (1948)، "بيروت أوكتيت"، الذي افتُتح في الحادي عشر من هذا الشهر في "غاليري صالح بركات" بالعاصمة اللبنانية ويستمرّ حتى السادس والعشرين من شباط/ فبراير المُقبل.
منذ البداية تُحدِّد خواصُّ الألوان المائية المستخدمة ما هو كائنٌ في اللوحة. قيل الكثير عن الماء، بل إن مُعجماً لغوياً انشدّ إليه وتفصّل وفقاً لليونته، ومن عتباته الأولى والأكثر مباشرةً، كالشفافية والخفّة مثلاً، تتّخذُ لوحةُ زريق منطلقاً لها.
وترجمة هذا لونياً تتدرّج من زُرقة مفتوحة على البياض، وبياض يُلقي بظلّه على نفسه، ومن رمادية تعلو اخضراراً وتطوّق حُلكة الأسود، أو بالأحرى احتماله، لنعود من جديد إلى البياض.
تتوزّع اللوحات على ثمانية أوقات من اليوم، ومن هنا اشتقّ اسمه Octet (ويعني شكلاً من ثمانية حدود)، ومع كلّ وقت ندخل في معيار جديد للماء، ومحدّدات يُساهم فيها الظلّ كما النور، فيصير المُفرد جمعاً، وتنشطر تلك الوحدة كاشفةً عن أكثر من وجه للماء.
باثنتي عشرة لوحة مائية، إذاً، نقرأ اليومَ والوقت، ولا نرى فقط أثر نباتات ممدودة على الورق؛ إذ مع الانتباه نُدرك أنها ليست نباتات ولا طبيعة ببُعدها الانطباعي الملموس، بل تجريد بعيد، يتّصل بالخيال أكثر ممّا يقترب من الواقع. إنه الخيال وقد أغرقته الخفّة.
بالعودة إلى الأوقات الثمانية التي يركنُ إليها المعرض، وهي: "الفجر"، والصباح"، و"الظهيرة"، و"بعد الظهيرة"، و"المساء"، و"الغروب"، و"الشفق"، و"الغسق". بهذا فإن الماء غير موجود فقط في ما هو مادّي، بل منحلٌّ أيضاً في الزمان نفسه.
ولو ذكّرنا بمقولة ابن عربي في هذا السياق "أنّ الزمان مكان سائلٌ، والمكان زمانٌ جامد"، نكون قد وضعنا اليد على مفتاح لقراءة الأعمال المعروضة، ولو أنّ التشكيلية آثرت أن تشفع لوحاتها بقصائد كتبتها بالإنكليزية.
يبقى السؤال إذا ما كان للماء كلّ هذا العنفوان؛ لماذا نجده قانعاً بحدود اللوحة الصغيرة إلى متوسّطة الحجم، لماذا لم يندَح أبعد من تلك الأُطُر؟ لا شكّ أنّ إجابة ما مَطوِيّة في أحد أركان المعرض الثمانية، وهي خلاصة مُركّبة من كلّ ركن على حِدة، وإن لم يبدُ الغرق احتمالاً عيانياً في اللوحة، إلا أن تأطيرها بهذا الحجم ربّما هو تفسير لورطة مراوغة أو انقلاب تُخشى عواقبه من هذا الكائن الفيضي.
يُشار إلى أن لزريق عددً من المؤلّفات التي تختلف موضوعاتها، مثل السيرة الذاتية ككتابها "والدي" (2010)، وتحكي فيه علاقتها بوالدها المفكّر قسطنطين زريق (1909 - 2000)، أو مثل "ما وراء الفن"، وهو مجموعة لوحات وقصائد عن فترة انتشار جائحة كورونا بدءاً من ربيع 2020.