في عام 1937، ومع دخول قوات الاستعمار البريطاني معظم القرى والبلدات الفلسطينية وإيقاعه عقوبات جماعية لإنهاء ثورتها الكبرى بالقوة والنار، كتب الشاعر الفلسطيني عبد الرحيم محمود (1913 - 1948) أبياته الشهيرة التي تشكّل علامة مؤسّسة في أدب المقاومة، واعتبر فيها أن استشهاده في مواجهة العدوّ هو غاية مناه وما يمضي إلى تحقيقه.
صورة وصفها جبرا إبراهيم جبرا في كتابه "الرحلة الثامنة" (1972) بأنها رثاء الشاعر لنفسه إذ تنبأ بمقتله، رغم أنه كتبها رثاء لأحد أصدقائه الذين استشهدوا في الثورة الفلسطينية، فلم يجد نفسه إلا في ذاك المكان حيث روحه في أعلى مراتب حرّيتها.
يفتتح محمود قصيدة "الشهيد" بالقول: "سأحمل روحي على راحتي/ وألقي بها في مهاوي الردى/ فإما حياة تسرّ الصديق/ وإما ممات يغيظ العدى/ ونفْس الشريف لها غايتان/ ورود المنايا ونيل المنى".
نهاية ظلّ يبحث عنها ولا يبتغي سواها، فلم يكن أمامه بعد توقّف الثورة في بلاده إلا أن ينتقل إلى العراق ليعمل معلّماً في إحدى مدارس البصرة، ثم يرفع السلاح في مواجهة الاستعار ذاته الذي هيمن على بلاد عربية عديدة؛ إذ لم يجد في حياته سوى تدريس العربية أو الدفاع عنها بالسلاح، وأن يكرّس قصيدته لجملة المبادئ التي آمن بها واستشهد من أجلها.
وصف جبرا إبراهيم جبرا قصيدة "الشهيد" بأنها رثاء الشاعر لنفسه
في العراق، سيقاتل في صفوف ثورة رشيد عالي الكيلاني في معركة "سن الذبان" التي وقعت خلال أيار/ مايو عام 1941، وكانت من أشرس المعارك بين الثوار العراقيين وبين المحتل البريطاني، وخلال تلك الفترة التي استمرّت نحو ثلاثة أعوام تطوّرت مهارات عبد الرحيم محمود القتالية، وكتب قصائد تعبّر عن إحساسه بمصاب أمّته العربية التي يحارب أبناؤها من أجل الاستقلال، ومنها قصيدة يقول فيها: "أبغير مجد بني نزار ويعرب/ يزهى عراقي ويفخر شامي".
وعندما أخفت ثورة الكيلاني واضطر رجالها إلى التفرّق بعيداً عن أعين البريطانيين، توجّه محمود إلى فلسطين مروراً ببادية الشام، حيث أشار جبرا إلى تيهه مدّة هناك في وصف حرفي ومجازيّ أيضاً؛ إذ لم يهتد طريقه إلى وطنه فعلياً، كما أحسّ بوحشة شديدة تحدّث عنها عبد الرحيم في مفتتح إحدى قصائده عن الشاعر الذي "وجد نفسه غريباً غربة حجر هناك (يقصد البادية). ومؤكّد أن الحجر دلّه أخيراً على الطريق، فخاطبه: فيم انفرادك لا أنيس/ تراه في القفر المخيف".
بعد ذلك، عاد إلى فلسطين، إلى مهنته الأولى معلّماً في "مدرسة النجاح" بنابلس، دون أن تخلو حياته من صدام مستمر مع السلطات البريطانية، ونشر خلال تلك الفترة العديد من قصائد على صفحات الجرائد، إلى جانب مشاركته الدائمة في المناسبات الوطنية والاجتماعية التي كان يلقي خلالها أشعاره، وكانت أبرزها قصيدته المطوّلة "أحاجي في ذكرى وعد يلفور" التي قرأها في "فندق فلسطين" عام 1947.
وكتب في مديح نضال شعبه قائلاً: "شعب تمرّس بالصعا/ ب فلم تنل منه الصعاب/ لو همّه انتاب الهضا/ ب لدكدكت منه الهضاب/ متمردٌ لم يرض يو/ ماً أن يقرّ على عذاب/ عُمر نينَه بَلَغَ السَما/ ءَ وَرَأسَهُ نَطَحَ السَحابْ".
في عام 1948، تطوّع عبد الرحيم محمود في صفوف جيش الإنقاذ برتبة ملازم، واستشهد في معركة الشجرة بالقرب من مدينة الناصرة التي لم تكن قد وقعت في أيدي العصابات الصهيونية بعد، في الثالث عشر من تموز/ يوليو، فدُفن جثمانه هناك.
خمسة وسبعون عاماً على شهادته التي لم يتمن غيرها، تصادقها قصيدته التي يقول فيها: "لعمرك أنّي أرى مصرعي/ ولكن أغذّ إليه الخطى/ أرى مقتلي دون حقّي السليب/ ودون بلادي هو المبتغى/ وجسمي تجندل فوق الهضاب/ تناوشه جارحات الفلا/ فمنه نصيب لطير السماء/ ومنه نصيب لأسد الثرى/ كسا دمه الأرض بالأرجوان/ وأثقل بالعطر ريح الصبا/ وعُفّر منه بهيّ الجبين/ ولكن عفاراً يزيد البها".