في صباح الثاني من آذار/ مارس الجاري، وصل إلى ضاحية مونتروي الباريسية، النُّصب التذكاري للشاعر والفيلسوف أبي العلاء المعرّي (973 - 1057م)؛ بعد رحلة استغرقت عدّة أيام، منطلقاً من مدينة غرناطة الإسبانية، حيثُ شكّلته من البرونز يدا النحّات السوري عاصم الباشا (1948). وسيُحتفظ به في مونتروي كمحطّة أولى أو وطن مؤقّت، وذلك خلال في رحلة العودة المنتظَرة إلى مسقط رأس صاحب "رسالة الغفران" في مدينة معرّة النعمان السورية؛ بديلاً عن التمثال الذي نحته فتحي محمد عام 1940، وفجّره متطرّفون جِهاديون قبل عشر سنوات؛ واستعادةً "للرابط المشيمي بيننا وبين وطننا الأم سورية، وطناً حراً قائماً على التعددية والديمقراطية"، كما جاء في تقديم منظّمة "ناجون"، المُشرِفة على المشروع.
المشروع أكبر من مجرّد تمثال، بل هو رحلة تجمع في طيّاتها سيرة الثورة السورية، ومعنى التوق إلى الحياة الذي حملته منذ مظاهراتها الأولى في الخامس عشر من آذار/ مارس 2011؛ تاريخٌ اعتمدته "ناجون" التي يشرف عليها المُمثّل السوري فارس الحلو (1961)؛ لتدشين التمثال مساء اليوم الأربعاء. وبهذا يكون المُنجَز جماعياً كما الثورة تماماً؛ ثورة عرّفت السوريين على بعض من جديد، بعد أن قطع الاستبداد تلك المعرفة، وكرّس الجَهل بالآخَر، فبالجهل عزّز سلطته الديكتاتورية لأكثر من خمسين عاماً.
يمثّل المعرّي نموذجاً لكرامة المثقف المتعالي عن الارتهان
تمثّلت المرحلة الأولى من المشروع في مطلع عام 2018، بتأمين المُساهَمَات من المنافي التي يتوزّع عليها السوريون، وكانت محصورةً بالناجين من معتقلات النظام، و"الذين آمنوا بخطاب الحريات والحقوق العامة"، وفقاً لـ"ناجون".
والجدير بالذِّكر أنّ الخطوة الأُولى تلك قد تزامنت مع أوقات تصاعد فيها العنف والقصف والتهجير، بدءاً من قصف النظام لبلدة سراقب قرب إدلب، في العاشر من كانون الثاني/ يناير 2018، وصولاً إلى الغوطة الشرقية، حيث قُصفت مجدّداً بالكيماوي في 7 نيسان/ أبريل 2018، ولم تنته الحملات العسكرية إلا بعملية تهجير كبرى.
بعد الانتهاء من تلك المرحلة، قامت "ناجون" بتحويل الكلفة العامة إلى أسهم، ومنها تم الانتقال إلى مرحلة التحضير في 14 نيسان/ أبريل 2018، في غرناطة، حيث يُقيم النحّات السوري عاصم الباشا. وهناك وُضع الأساس الطيني للعمل، واستغرق ذلك 26 يوماً، قبل أن يوقّع الفنان على العمل النُّصبي الطيني، وكذلك وقّعت "ناجون" بيد طفلة سورية بتاريخ 25 أيار/ مايو من العام نفسه. ومع مطلع حزيران/ يونيو بدأت مرحلة جديدة هي مرحلة الصبّ، وشُرع بأخذ القياسات من أجل صناعة القالب الذي تكوّن من 17 قطعة، ليستغرق الأمر عشرة أيام تقريباً، قبل أن تبدأ بعدها عمليات الصهر والصب والتركيب، التي ترك عليها الباشا لمستها الخاصّة، وامتدت لأربعة شهور تالية.
الجدير بالذكر أنّ فريقاً تنفيذياً بالإضافة إلى الباشا، يتولّى الإشراف على المشروع، وقوامُه فنانون وكتّاب وحقوقيون سوريون وأجانب، وهم: فارس الحلو، وجلال الطويل، والمهندسة المعمارية الإسبانية مار مورينو، والفنان الإسباني خوسيه كارانزا، وغياث زهوة، ولمى زبد، وفرناندو هرنانديز، ونيكول الباشا، وأنور البُني، وسلافة عويشق، ويمان الشواف، وإيميلي غلاس مان، وبراء عويس، وعمر الخطيب، وأسامة محمد.
يرسّم المشروع هوية سورية قوامها العقل والعدالة والسلام
وإذا كان قد وقع الخيار على المعرّي لسببٍ مباشر يتمثّل في استهداف التنظيمات المتطرّفة لتمثاله قبل عشر سنوات؛ فإنّ الكثير من الأسباب الأُخرى تحضر أيضاً في المشروع، وهي لا تقلّ راهنية وأهمية، وهذا ما توضّحه "ناجون" عبر موقعها: "في اختيارنا للمفكّر والشاعر أبي العلاء المعرّي ليكون هو موضوع النُّصب، دوافع وأسباب تكاد لا تنتهي، لا تبدأ من كون المعرّي ثورة يتيمة في عصره، ولا تنتهي بكونه رمزاً إنسانياً لحرية التفكير والشك والسؤال، ومثالاً لكرامة المثقف الكوني المتعالي عن الارتهان لأي سلطة كانت. هو أحد أهم روّاد الإنسانية على الإطلاق في دعوته إلى مركزية العقل وضرورة النقد الاجتماعي والثقافي"، وهنا يأتي التذكير بالشطر الشعري المُستلّ من أبيات المعرّي، والذي يتصدّر واجهة الموقع:
يرتجي الناسُ أَن يقوم إِمامٌ/ ناطقٌ في الكتيبة الخرساءِ
كذب الظنُّ لا إِمامَ سوى الـ/ ـعَقل مُشيراً في صُبحهِ والمساءِ
ويُشار إلى أنّه منذ إعلان انتهاء العمل على النُّصب في نيسان/ إبريل 2019، والنشاطات تتواتر حوله في أكثر من بلد أوروبي؛ للتعريف أكثر من خلاله بقضية السوريين سواء عبر الندوات أو المعارض واللقاءات، والتي ظلّت تكثّف في طيّاتها الكثير من تفاصيل مقاومة السوريين للديكتاتورية، وتعبّر عن الطريقة التي تمّ من خلالها تطويق ثورتهم. ويمكن القول إنّ هذا المشروع، وبعد خمس سنوات من الاشتغال عليه، دلّلَ على محاولة سورية جادّة من أجل الاجتماع على رؤيةٍ لحياة سياسية جديدة في البلاد قوامها العقل والعدالة والسلام.
مِن فتحي محمد، النحّات الذي وقّع تمثال المعرّي عام 1940، والذي فجّره متطرّفون عام 2013، إلى عاصم الباشا و"ناجون" اليوم، ومِن غرناطة ومونتروي ومنافي السوريين في مختلف بلاد العالم إلى معرّة النعمان، أو حتى دمشق، ما زال للحلم السوري مُتّسعٌ يذكّر بالشهداء الذين قضوا في مظاهراتهم السِّلْمية، بالآلاف الذين غُيّبوا في المعتقلات، ويذكّر بقضية لن تسقط بالتقادُم، وإنْ أُعيد تعويم النظام من جديد والتطبيع مع جرائمه.
هذا وتعقب احتفال نَصْب التمثال مسيرةُ حِدادٍ صامتة تكريماً لضحايا الثورة السورية، وضحايا زلزال كهرمان مرعش الذي ضرب سورية وتركيا في السادس من الشهر الماضي؛ على أن يُعرض عند الثامنة والنصف من مساء هذا اليوم، فيلم "ماء الفضّة: سورية سيرة ذاتية" للمخرج أسامة محمد، ويليه نقاش مفتوح بين الناقد السينمائي الفرنسي نيكولاس غوديت والمخرج السوري.
الشامي الأخير في غرناطة
وُلد النحّات والرسام والكاتب السوري عاصم الباشا في بوينس آيرس عام 1948، ويُقيم في غرناطة منذ عام 1987. أنجز أول عملٍ نحتي له في سورية عام 1960، قبل أن يلتحق بكلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق عام 1969، ثم تخصص بالنحت النُّصُبي في "معهد سوريكوف" بموسكو؛ وعام 1981 حضّر للدكتوراه من جامعة السوربون في باريس. له أكثر من 50 معرضاً ومشاركةً في ملتقيات نحتية بمدن مختلفة حول العالم، ومنها: "الملتقى الدولي للنحت" في سانتياغو (1988)، و"ملتقى فالدي غيث ياس الدولي" (2001)، و"الملتقى الدولي السادس للنحت" في كوريا الجنوبية (2002)، و"ملتقى إهنغين الدولي للنحت المعدني" (2004)؛ كما أنجز في غرناطة نُصباً تذكارياً من البرونز تحية لشغّيلة الأرض عام 2007. ومن أعماله الأدبية: "وبعض من أيام أُخر.." (1984)، و"باكراً، بعد صلاة العشاء" (1998)، و"الشامي الأخير في غرناطة" (2010)، و"غبار اليوم التالي" (2016)؛ إلى جانب العديد من الكتابات النقدية والفنية في صحف عربية عديدة.