منذ معرضه الذي أُقيم في غاليري "آرت أون 56" ببيروت عام 2015 وحتى مشاركته أخيراً في معرض جماعي في المدينة نفسها، اختار الفنان السوري طارق بطيحي (1982) لفنّه خطّة صارمة، منتظَمة إلى حدٍّ ما. في معرضه الأوّل وقعنا على لوحات تدور بكاملها على صوَر امرأة منفردة بدون خلفيات. مع ذلك، فإنّ الصورة نفسها، بتلوينها التلطيخي والمختلط، والجسد شبه المائج، يوحيان بأنّ ما يكاد يكون خلفية، يكسو الجسد المرسوم وينطبع عليه.
ليس لنساء البطيحي ملامح نافرة، هناك الجسد المدموغ بلطخات لونية كيفما اتّفق؛ لطخات تكاد تطغى على القسمات وتدغمها في بعضها البعض وتمنحها أيّة ألوان تخطر، ألوان ضبابة تبدو وكأنها تَرسم ما تحت الأعضاء، أو ما فوقها، بحيث تبدو هكذا وكأنها تعطي دلالة للأجزاء الجسدية، وتنفذ إلى روحها وأثيرها وجوّها. يبدو الجسد نفسه، بذلك، داخلَ الجسد حاملاً معناه وقصّته. لا نستطيع أن نتعرّف على قسمات الجسد وتفاصيله، إنه مختلِطٌ بعضُه مع بعض، بل إنّ ما نراه منه هو تقريباً ما وراء الجسد، وما بعده.
امرأة تكاد تكون هي نفسها من لوحة إلى أُخرى
لسنا هكذا أمام امرأة بعينها، المرأة التي نراها مدموغة ملطّخة، تُشعِر بأنّ في ذلك صورتها الحقيقية وشخصها، إلى حدّ أننا أمام النساء اللواتي يتوالين في معرض بطيحي، نشعر أننا هكذا أمام المرأة، أمام امرأة تكاد تكون واحدة في شتّى اللوحات، تكاد تكون هي نفسها من لوحة إلى لوحة. نقع عليها في لوحة واقفة، وفي أُخرى جالسة، وفي أُخرى راقدة، ماشية في لوحة أو هامّة بالمشي. لا تنمّ الرؤوس شبه المطموسة وشبه المدموغة عن وجهٍ جليّ، أو قامة جلية، لكنّنا نشعر، ونحن نوالي النظر إلى لوحات، أنّها المرأة.
نشعر أنها قد تكون المرأة نفسها، بل يغلب الإحساس بأنّ المرأة الراقدة في لوحة، وبين يديها حيوان قد يكون هرّاً، بل هو في الغالب هرّ، والمرأة المنحنية إلى الأرض برأسها المطموس تماماً، والمرأة الراقدة وقد اندمجت في نفسها إلى حدّ يجعلها شبه مكومة؛ نشعر أن هؤلاء النساء اللواتي ينتقلن بين اللوحات، هنّ المرأة نفسها وهي تخرج من لوحة إلى لوحة، وتُمضي هكذا أوقاتها وحياتها. نشعر أنّنا أمام ذات المرأة، وأنّ المعرض يتحوّل هكذا إلى سردية متواصلة، إلى شبه سيرة. الأوضاع المختلفة التي تبدو عليها المرأة ليست سوى لحظاتها وأوقاتها المختلفة.
حين نذهب إلى المعرض الجماعي نجد أن لوحات بطيحي، هذه المرّة، بورتريهات وجوه لأشخاص يغلب أنهم رجال. بالرغم من أنّ الوجوه أكثر جلاءً الآن، وفي وسعنا أن نتميّزها، إلّا أن الفنان الآن لا يكتفي بطمس الوجه، بل يُمعن فيه بالخط تمزيقاً، ويدمغه بقسوة واضحة.
على اختلاف ما بين المعرضين، وبينهما خمس سنوات في الأقل، إلّا ان البطيحي في المعرض الثاني، الجماعي، لا يزال في انتظامه وصرامته التشكيلية. الآن يقدّم بورتريهاتِ وجوه، ورغم اختلاف ما بين هذه الوجوه، إلّا أنّ الإحساس نفسه يعاودنا: أنّ وراء هذه الوجوه، وراء تلطيخها وتمزّقها، الشخصَ نفسه، وهو ينتقل في شبه سردية من لوحة إلى لوحة.
في تقديمه لمعرض 2015 يردّ فاروق يوسف الفنانَ إلى سابقَيْن عليه، هما تولوز لوتريك وإيغون شيل. في المعرض نفسِه ما في لوحات لوتريك من حياة يومية ومدينية، وما في لوحات شيل من حرّية وقسوة وجسارة تشكيلية. في معرض بطيحي ما يُذكّر بالاثنين، بالتأكيد، لكنّه يبقى دونهما، دون يوميات لوتريك وحرّية شيل. بيد أن فاروق يوسف يرى أنّ نساء بطيحي موسومات بالطُّهر. لا يكفي أن تكون نساء بطيحي عاريات ليتّسمن بالطهر. ليست نساء بطيحي عاريات، لكنّ التلطيخ والطمس لا يجعلهنّ، من ناحية أُخرى، مرتديات.
في الحقيقة نشعر غير مرّة أنّ أجساد نساء بطيحي الضائعة تحت التلطيخ اللوني هي أقرب إلى ما تكون عاريةً. بل نحن نشعر أنّ الجسد تحت الطمس والدمغ لا يُرى كجسد فحسب، بل يُرى من الداخل، ممّا وراء الجسد. أي أن الاشتهاء واللمس والحِسّ أمورٌ قد تكون في خفايا اللوحة وخفايا الدمْغ، وقد تكون مائجةً تحت اللطخ اللونية، بل قد يكون الجسد في تمدُّده وانحنائه، وتجمُّعه على بعضه، يملك في خِفيته تلك لمعاتِ الرغبة والشهوة، وليس الطهر بالتأكيد هو كلُّ ما يقدّمه وما يتّسم به.
* شاعر وروائي من لبنان