"هذا هو الشيء المميز في الكتب: أنها تتيح لك السفر دون أن تحرك قدميك".
جومبا لاهيري
مُتعتي الوحيدة هي الكتب. أُنفق نصف منحتي الجامعية ـ التي أقف في طابور طويل للحصول عليها ـ في شراء الكتب. لقد ظلّتِ الدافع الحقيقي للاستمرار في هذه الحياة، والسَّير في هذه المدينة المُشرفة على الموت.
نزلت درجات سوق الكتب المستعملة (السوق عبارة عن دكاكين حديدية مسقّفة بالقصدير). وبعد التصفُّح الميكانيكي للكتب، دخلت الدكّان الموجود في نهاية السوق تقريباً، بعد انعطاف بسيط نحو اليسار. قلتُ:
ـ هل توجد كتب جديدة؟
ـ وصلت كرتونة هذا الصباح، تستطيع البحث عنها في الداخل.
في زوايا الدكّان كتبٌ متراصة فوق بعضها البعض إلى غاية السقف. لا منفذ للهواء أو النور سوى باب الدكّان الضيّق. وحدها رائحة الكتب تملأ المكان. اخترت عشرين كتاباً، يستحيل توفّرها في المكتبات، وبطبعات قديمة، أقدمها يعود إلى السبعينيات، إنها غنيمة حقيقية.
نصف ما أملكه من نقود دفعته مقابلاً للكتب، بعد إجراء حسابيٍّ سريع عن طريق الآلة الحاسبة للبائع الشاب.
ـ الكتب ثقيلة، أريد شيئاً أحملها فيه.
ـ سأبحث لك عن كيس بلاستيكي.
ـ لا أرجوك... أكياس البلاستيك تنقطع بسرعة.
كانت الكرتونة صغيرة لكنّها اتّسعت لكلّ الكتب. على طاولة البيع أبصرتُ طبعة رديئة من رواية لكونديرا. ابتعتُها وسرت حاملاً الصندوق تحت الشمس في الطريق إلى البيت.
بدا شعار شركة البسكويت المطبوع على الصندوق: "بسكويت مقرمش بطعم الشوكولاتة"، بلونه الأحمر، وبصورة الطفل فوقه غامزاً بعينه اليُمنى، دليلاً دامغاً على وجوده، هنا في الغرفة، بجانب المكتب الممتلئ عن آخره تقريباً بالكتب. قرأتُ كلّ تلك الكتب تقريباً.
■■■
كانت الكتب في البداية مجرّد كتُب للقراءة، لكنها مع الوقت فقدت هذه الوظيفة الأزلية صارت كلّما فتحتُ كتاباً وبدأتُ في قراءته: أدخل فيه، ليس الدخول هنا تشبيهاً مجازياً، بل دخولٌ بكلّ معنى الكلمة. حيث أصير بكامل جسدي وكياني وشعوري داخل الكتاب. أتحرّك فيه بأريحية تامّة. وكان لكلّ كتاب عوالمُه الخاصة، كما في الأحلام.
وضعت كريستين القهوة على الطاولة الواطئة، ورفعتِ الستائر حتى استعمرتِ الشمس الغرفة بأكملها وجلستْ إلى جانبي. سألتُ:
ـ تسافرين كثيراً أليس كذلك؟
ـ أجل، زرتُ خمس عشرة دولة تقريباً.
(جوّال كريستين ممتلئ بصورها في مختلف دول العالم، حيث تتجوّل وتعيد اكتشاف العالم).
ـ كيف تقومين بذلك؟ أقصد عن طريق ماذا؟
ـ عن طريق الطائرات أو السفن أو الباخرات... الوسائل المعروفة.
ـ ألم تسافري يوماً عن طريق الكتب؟
ـ عن طريق الخيال.
ـ لا أقصد ذلك، بل سفرٌ حقيقيٌّ، مثل السفر بالباخرة أو الطائرة... لكنّه سفر عن طريق الكتب، أو في داخل الكتب.
ـ !!
أخرجتُ كتاباً من حقيبتي وطلبت منها قراءته لتتأكّد. فتحتِ الكتاب وركّزتْ على سطور الكتابة و أخذتْ تقرأ، انفتحتْ عيناها على آخرهما ثم عادتْ ممتلئة بالدهشة.
ـ الأمر حقيقي... يشبه قصة آليس في بلاد العجائب.
ـ ألم أقل لكِ.
لطالما حلمت بأن أمسك يد كريستين، وأجوب العالم، شبراً شبراً. في تلك الليلة نمنا أنا وهي، يدي في يدها، وجبنا العالم...
وهكذا صارت تلك الكتب بوابات نحو عوالم مختلفة. كنّا نفتح الكتب ثم ما نلبث أن ندخل فيها، فتصير لنا الحرية المطلقة في التحرّك والتعبير... من بلد إلى آخر، من ثقافة إلى أُخرى... بعد أن استنزفنا كتب الصندوق العشرين جرّبنا الأمر مع كتب أُخرى، نجح الأمر في كتب، وفي كتب أُخرى كاد يؤدّي إلى كوارث كبرى... وحدث أن اكتشفنا صدفة أن الصندوق أيضاً بوابة إلى عوالم أُخرى. فتحنا أجنحة الصندوق، أفرغناه من الكتب... وضعتُ يدي في يد كريستين، شعرت ببعض الارتياح. تنفّسنا الصُّعَداء ودخلنا إلى الصندوق... وبالتالي صار فتح الصندوق والدخول فيه عملية يومية. كانت جولاتي الفردية تتّخذ طابعاً خاصاً في غياب كريستين عن الشقّة.
أخبرتني كريستين أنها سافرت لأوّل مرّة في عُمر السابعة إلى البحيرة الزرقاء التي تقع بالقرب من ريكيافيك، وهي عبارة عن حمّامات ساخنة للاستشفاء، وسط جو ضبابي كثيف. أما أنا فلم أسافر كثيراً، معظم أسفاري كانت اضطرارية، لا تلبي حاجات وجودية في داخلي.
لقد استطاع هذا الجسم الكرتوني الصغير (130 × 30 × 190) جذبَنا إليه مثل معادنَ صدئةٍ. كريستين بدت متخوّفة من الأمر، الذي صار يشبه الإدمان أو الجنون.
في الخارج لم يكن العالم مهمّاً. كريستين كانت لها حياتها التي تستطيع عيشها بكلّ قوّة. أمّا أنا فلا شيء كان يجذبني إلى الخارج. كنت كلّما خطوت خطوة إلى الأمام أدركتُ هشاشتي فأتراجع إلى الداخل. حتى النصوص التي أكتبها كانت غير قادرة على احتواء كلّ ذلك الثقل في داخلي. ما أنشره منها لا يتجاوز في الغالب أربعين لايك. كيف يمكن للمرء أن يصبح كاتباً بأربعين لايك؟ (كريستين ترى أنّ القصائد التي تكتبها بالآيسلاندية غير مكتملة). لذلك أحرقتُ كلّ قصصي في حوض الاستحمام ودلقتُ الماء على رمادها، وفتحتُ النافذة لكي يخرج الدخان. أغلقتُ هاتفي بشكل نهائي ووضعته داخل درج المكتب، وأنزلتُ الستائر، بحيث يبدو المنزل من الخارج كأنني مسافر بلا عودة. ولا أظنُّ أن أحداً سينتبه إلى غيابي عن المحاضرات.
ننام طوال النهار، أو نخوض مغامرات عبر الصندوق. وفي الليل أفتح النافذة على اتّساعها، حيث الظلام سيد اللّحظة. كنت أدرك العالم جيداً ساعة الظلام، نخرج في جولاتٍ ليلية عبر الشوارع المُقفرة. كريستين تحبّ السير في المطر، أما أنا فالمطر يشعرني بالخوف وبانعدام الأمان. وفي الصندوق لم يكن للزمن أهمية، كان زمنُنا خاصاً، زمناً في راحة اليد، كان كلّ شيء ممكناً وكلُّ شيء ممتزجاً ببعضه. كنتُ أنا كريستين، وكريستين أنا!
حتّى الأحلام صارت مجرّد صور جامدة، وأصوات مشّوشة.
كان العالم كلّه داخل الصندوق... مرآةٌ كبيرة نرى أنفسنا فيها.
■■■
ظللتُ مستيقظاً. محدّقاً في عقارب الساعة المعلّقة على الحائط، متخيّلاً عقاربها تدور، تارةً إلى الأمام، وتارةً بالعكس، رغم إدراكي التامّ بأنها متوقّّفة. كانت كريستين بجانبي على السرير نائمة، أنفاسُها تغمرني مثل هواء مروحة صينية. قفزت من السرير، كنت أحسّ أن ثمّة غرابة في المكان، غرابة غير مرئية.
أدركت أن حياتي يجب أن تنتهي في هذه اللحظة بالضبط، حيث كريستين تغطّ في النوم. لقد انهار كلّ شيء، وحتى ما تبّقى منه سينهار قريباً. فتحتُ الصندوق، كان أصغر من أن أدخل فيه... لكنني دخلت، فبدأ صوت العالم يخفت بالتدريج.
* قاص من المغرب، وقد نالت "صندوق الكتب" جائزة القصة القصيرة للشباب التي نظمتها تظاهرة "الآداب المُرتحِلة" تحت عنوان "من ثقافة إلى أخرى"، وأعلن عنها مطلع هذا الشهر في مدينة فاس.