- يستعرض الكتاب السياق التاريخي والسياسي، مظهرًا تلاقي المصالح الاستعمارية البريطانية والصهيونية على حساب الشعب الفلسطيني، مع تقديم شهادات تكشف عن الخديعة والمؤامرات.
- يُبرز مقاومة الشعب الفلسطيني عبر العقود، مؤكدًا على أن الصراع هو على الأرض والهوية، ويُشير إلى أن القضية تمثل آخر حلقات الاستعمار التقليدي، مع استمرار النضال من أجل الحرية والحق في العيش على الأرض.
مع وضوح نيَّة الاحتلال الصارخة بالقتل الجماعي لمليونَي إنسان، أو بالحدّ الأدنى جعل الحياة مستحيلة في قطاع غزّة. يُدرك المرء أنَّ لحكاية حرب الإبادة هذه التي يقف العالَم عاجزاً عن إيقافها أو تخفيض حدَّتها، بداية تسبق بكثير السابع من تشرين الأول/أكتوبر، ولها نهاية يفترضها ويأملها الصهاينة، وهي انتهاء فلسطين نفسها. لكن إن كانت النهاية الفعليَّة بيد السياسيّين، أو الشعوب، أو ملك الزمن. فمن المؤكّد أنَّ القتلَ هو ما يحدث في هذا الزمن المستقطع؛ قتل البشر وقتل القِيم التي وصلت إليها البشرية ككلّ.
يُمكن تحديد البداية الفعليَّة لحكاية انتزاع الأرض من شعبها مع ما يسمّى "وعد بلفور" (وعدُ من لا يملك لمن لا يستحق). فـ"الوعد" الذي أصدره وزير الخارجية البريطاني عام 1917 أحد التواريخ الفارقة، التي رسمت حدّاً يفصل ما قبله عمَّا بعده. وكتاب المصريَين المؤرّخ والصحافي صلاح عيسى (1939 - 2017)، والروائي جميل عطيّة إبراهيم (1937 - 2020) "صكّ المؤامرة" الذي أعادت "دار الكرمة" طباعته عام 2022، وقد صدرت طبعته الأولى عن "دار الفتى العربي" عام 1991؛ مدخلٌ شامل لفهم السياق الذي قادَ إلى الوعد المزعوم، إذ يروي الكتاب حكاية "وعد بلفور" باسترسالٍ ودقّة.
وهو رواية بالمعنى الذي يحمله السرد من متعة القصّ، وتعدُّد الأصوات، إلى جانب المعرفة التي يحملها، ووضوح المقولة. إضافة إلى تصوير لحظات الألم التي عاشتها شخصيات تاريخية مثل الشريف حسين الذي كان من منفاه في قبرص وعلى كرسيّه المتحرّك ينظر بمنظار مُكبّر إلى حدود الوطن العربي الذي ضاع. والوزير اليهودي في الحكومة البريطانية التي أعطَت الوعد، الذي أخذ يصرخ والدموع في عينيه محتجّاً على عدم الأخذ برأيه المعارض للصهيونية: "إنّي البريطاني اليهودي الوحيد في الوزارة". وعندما أُقرَّ الوعد، قرأه الوزير اليهودي وهو في الهند؛ تساقطت دموعه. مع إدراكه أنَّ زماناً من الدم والنيران أحاطَ به الصهاينةُ اليهودَ.
سرقة استعمارية تغطّت بمشروع قومي استكمَل جرائمها
إذاً الكِتاب يُحيط بـ"الوعد" وظروفه إحاطة شاملة، عبر أربعة أصوات تتداول حكاية هذا الوعد المشؤوم؛ البريطاني والصهيوني واليهودي والعربي. وهو رواية عن الخديعة التي وقع العرب في حبائلها، كما يكشف زيف الادّعاء الصهيوني عن حجم دورهم في إصدار الوعد. إذ يتحدّث الكتاب في المقام الأول عن المصالح الاستعمارية التي تلاقت مع الصهيونية، ويقرأ التشابُك المعقّد للعلاقات البريطانية- الفرنسية والألمانية والأميركية والروسية والتركية، مع العرب واليهود. ويصوّر مآل التركة العثمانية.
باختصار، وجد البريطانيون أنّ من مصلحتهم إقامة كيان للصهاينة يمنع فرنسا من السيطرة على قناة السويس، ويمنع إقامة دولة عربية مُوحّدة. وهذه حقائق تاريخية، يُؤكّدها الواقع الذي انتهى إليه الحال العربي، لبلدان مسلوبة القرار حدّاً من الصعب فيه أن تلتقي على قرار حول إيصال المساعدات! يعيد الكتاب فكرة إسكان يهود أوروبا في فلسطين تعود إلى نابليون بونابرت عند غزوه للشرق. كما يستهلّ الكتاب بمقولة لوزير الخارجية البريطاني تعود لعام 1840؛ عن أن فلسطين اليهودية ستمنع إقامة دولة عربية تضمّ مصر والشام وتهدّد مصالح الغرب. واضح أن تصريحه جاء في أعقاب انكفاء مشروع محمد علي. و"إسرائيل" الحالية تجسيدٌ لماضي أوروبا العنصري، ولفكرها الاستعماري معاً.
في الكتاب نقرأ شهادات المُعتمَد البريطاني في مصر هنري مكماهون، صاحب الوعود الكاذبة إلى الشريف حسين بمساعدة العرب في إقامة دولتهم المستقلّة. وشهادة للصهيوني حاييم وايزمان الذي قام بأقصى الجهود للحصول على الوعد المشؤوم من وزير الخارجية البريطاني بلفور، بـ "إنشاء وطن قومي لليهود" في فلسطين. وشهادة لوزير شؤون الهند إدوين صموئيل مونتاغو، الذي عارض بصفتهِ يهودياً-غير صهيوني الوعد. وشهادة الشريف حسين الذي يشرح موقف العرب ويُظهرهم أغراراً في السياسة الدولية. وأخيراً تعقب هذه الشهادات شهادة الفلسطينيّين أنفسهم الذين يُقاومون الوعد، ويرفضونه مع مرور العقود الطويلة. فالكتاب يختتم بصُور المقاومة الفلسطينية خلال الثورات المُتتالية.
ربح الصهاينة وطناً وهميّاً لأنَّ أصحابه لن يتركوه
الشهادات بمجملها تُظهر ظروف حصول الصهاينة على الوعد. وقد دخلت بريطانيا الحرب العالمية الأُولى كي تحمي مستعمراتها، لا كي تعطي العرب استقلالهم. وكانت المسألة واضحة بالنسبة إلى مكماهون، وهي مصالح الإمبراطورية، لا الوعود التي أطلقها للشريف الحسين. ويذكر ردّه على أحد الساسة العرب: أُفضّل أن يقولوا هذا رجل خدم الإمبراطورية، على أن يقولوا هذا صدق مع العرب.
فيما تُظهر شهادة الشريف حسين أنَّ المسألة لديه كانت "كلمة شرف" لم يلتزم بها البريطانيّون. وكان شعورُه حسب كلماته: "شعرت أنني نزلت للسباحة في بحر من الحِيتان قبل أن أتعلّم العوم!". كما كان العرب حريصين على تهيئة ملجأ آمن لليهود من الاضطهاد، وليس التنازل عن سيادة العرب على فلسطين. مع الإشارة إلى أنَّ اليهود في المجتمعات العربية لم يكونوا مُضطهَدين، على عكس ما كان سائداً في أوروبا.
بالنسبة إلى وايزمان، كانت معركته إلى جانب إقناع البريطانيّين، إقناع اليهود بأن يصيروا صهاينة. أي، أن ينحازوا لأن يكونوا قومية لا ديناً سماوياً. معركة خاضها مع التيار الذي يدعو إلى اندماج اليهود في مجتمعاتهم، عِوض تهجيرهم إلى وطن قومي مزعوم. وكان ذلك التيار يرى مشكلة اليهود في عزلتهم. والهرب إلى أرض شعبٍ آخر، سيخلق مشكلة جديدة من غير أن يحلّ مشكلة كراهية اليهود في أوطانهم الأصلية الغربية خصوصاً. تيارٌ تمثّله شهادة الوزير اليهودي الذي عارض وايزمان أشدَّ المعارضة، ورأى في إقامة وطن لليهود في فلسطين "غيتو أكبر" من "الغيتو" الذي أجبرهم الاضطهاد الأوروبي والروسي على الإقامة بين حدوده. مع ذلك، بالنسبة إلى الوزير مونتاغو فالمسألة واضحة: "ربح وايزمان وطناً وهميّاً لن يستطيع الاحتفاظ به مهما طال بقاؤه بين أيدي اليهود، لأنَّ أصحابه لن يتركوه".
قراءة الكتاب في هذا الوقت بخلاصاته الكثيرة، توضّح جذور المطامع الاستعمارية. وفي تحليل القضية الفلسطينية بالعودة إلى جذورها، يتّضح إلى جانب الجهل العربي بمفردات السياسة الدولية؛ أنَّ القضية الفلسطينية آخر حلقات الاستعمار التقليدي في العالم. قضية فلسطين، قضية استعمار في جوهرها، والقوى التي تتصارع عليها قوى استعمارية بالمبدأ، وتواجهها شعوب مُستعمَرة تريد الوصول إلى حرّيتها.
* روائي من سورية