وصلوا إلى قلب المدينة. والمدينة مسقِط الرأس ورعشة القلب، بما لها في التاريخ من صفحات لا تُنسى، منها المذبحة الكبرى (بمقاييس ذلك الزمان) في 1956، أيام العدوان الثلاثي على مصر. وبما لها في فنون المقاومة من تاريخ مشهودٍ أيضاً.
لقد كانت آخر مدينة عربية ترفع الراية البيضاء في نكبة حزيران، وحدث هذا في اليوم الثاني عشر للحرب.
كانت الجولان وسيناء والضفة الغربية وغزّة ورفح، قد سقطت، ولم تسقط خانيونس التي قاومت وصمدت، إلّا بخديعة كُبرى، حيث جاؤوا بدبّاباتهم ومجنزراتهم، تحميها الطائرات، واضعين العلم العراقي الكبير يرفرفُ على جوانبها، بارتفاع خمسة أمتار.
جاؤوا من شرق الحدود، من منطقة بني سهيلا وخزاعة، ووضعوا في الدبّابات جنوداً يتكلّمون الّلهجة العراقية، من يهودهم، وما إن بلغوا ميدان المدينة الرئيس، عند الجامع الكبير، وسط البلد، حتّى تقاطر عليهم الأهالي، يزغردون فرحاً بالانتصار، فباغتوهم بالرصاص. وهناك على حائط الجامع، صفّوا العشرات منهم وأعدموهم في لحظات، كما فعلوا في المكان نفسه، عام المذبحة (527 شهيداً)، قبل إحدى عشرة سنة.
أتذكّر كلّ تفصيل في تلك الحرب، وأتذكّر ما جرى من مقاومة
أتذكّر هذا كلّه. فقد رأيت آثار الدّماء على جُدران الجامع الكبير، وبعض الفُتات من الأجساد الطاهرة، عالِقاً بها قبل أن يجفَّ تماماً. كان أغلب سكان المدينة ومخيّماتها قد فرّوا إلى منطقة المواصي الزراعية على شاطئ البحر، بمن فيهم كلّ أفراد العائلة الكبيرة. لم نفرّ، وأصرَّ أخي الأكبر من أبي، أن نبقى في المخيّم، لكن حين اشتدَّ الوطيس وتحوَّلت المنطقة إلى مكان أشباح، هَربنا، عائلة أخي وعائلتي، وفي الطريق رمت علينا الطائرة "قيزان". لم تصبنا من حسن الحظ.
لم نتوجّه إلى المواصي غرباً، بل اتجهنا جنوباً، إلى منطقة ميراج، شمال رفح، وتمَّ هذا عن طريق الأحراش بأشجارها الكثيفة. وهناك حططنا الرحال وأقمنا تحت شجرتين معمّرتين من نوع الكينا والأكاسيا. حتّى نَفِد الطعام، وفقدت صوتي، بعد أربعة أيام من الجوع، حيث لا كسرة خبز. ولكن الله سلّم... فلم نشكُ العطش.
كان الكبار منّا يأكلون جذور الأشجار، وفي بعض الحالات، ورقها الأخضر، الذي هو طعام جيّد للماشية.
عُدنا إلى البيت، بعد عودة الناس جميعاً، فوجدنا الاثنتين والثلاثين دجاجة - وهي ثروتنا الوحيدة في هذه الدنيا-، قد أُعدمت جمعاء، إذ وجدنا في جسمِ كلّ دجاجة رصاصة أو اثنتين. أمَّا الديكان العظيمان، ففي رأس وجسم أحدهما ثلاثُ رصاصات. وفي جسم الآخر رصاصة من بندقية "عوزي" القصيرة. وكانت هذه بندقيتهم الرشاشة نصف الآلية الشائعة في ذلك الوقت.
قبل بداية الحرب، كانت لجان شعبية من الأهالي قد حفرت وراء حائط البيت "استقامات" بعمق نصف أو ثُلثَي قامة الرجل، وكان بيتنا يُشرف على أربعة شوارع، كونه أوّل بيت في "بلوك دي"، يقع على مرتفع بسيط، ويطلّ من جهة الشرق، على "نزلة" الشارع المسفلت في حارة زعرب، حيث يسكن المختار أبو نايف والحاج مصلح، رحمهما الله، وحيث هؤلاء الجيران الطيبون الذين استقبلوا العائلة بعد النكبة في بيوتهم، وأطعموها مما طعموا.
المهم: في طريق العودة للبيت، رأينا جثامين الجنود المصريين، ممن دافعوا عن القطاع، وقد انتفخت في الشمس. كان هذا أوّل لقاء لي بالموت، ولن أنساه أبداً.
بعدها وصلنا إلى منطقة "بطن السمين"، التي سنشتري، أخي منير وأنا، فيما بعد، نصف دونم فيها، يلاصق بيت اللحام، وهو البيت الذي أنقذتني سيّدته "أم بشير"، من الموت. فمن يديها أكلت أشهى رغيف صاج في الحياة.
كنا في الشارع الضيق، وكانت أمي تحملني، فشممت فوح رائحة الخبيز الساخن، وأومأت بيدي أن تطلبَ من جارتها خبزة، وكنتُ أعرف أنّهما صديقتان جمعهُما الترمّلُ المبكر، وهما في العشرينيات من العمر. أمي زوجة ثانية، وهي كذلك. وهذا ما تمّ.
أتذكّر كل تفصيل في تلك الحرب، وأتذكّر اليوم ما جرى على أثرها من مقاومة شرسة بأقلّ العتاد، ما جعل المحتلّ ينكّل بنا كمدنيّين، كلّما جرت عملية مسلحة.
هذا هو التاريخ القريب للمدينة التي تملك إرثاً في المقاومة، طيلة مراحل كفاحها الخشن ضد الغاصبين. ولهذا السبب تحديداً، لديّ ثقة بمقاوميها، من شباب الإسلاميين واليساريين، الذين سيستبسلون وهم يدافعون عنها وعن تاريخ آبائهم وأجدادهم فيها، مهما كلّف الثمن.
* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا