صدر قديماً: تذكُّر"متن اللغة" لأحمد رضا

05 ابريل 2021
أحمد رضا في بورتريه لـ أنس عوض (العربي الجديد)
+ الخط -

بعد انبعاث مجامع اللغة العربيّة الأولى في القاهرة ودمشق في عشرينيات القرن الماضي، تأكّدتِ الحاجةُ إلى وضع معاجمَ جديدةٍ، تُجمع فيها مئات المفردات التي ظهرت في عالَمنا العربي، إبّان عصر النهضة وما توالد خلالها وبعدها من جديد المَعاني. وكان من بواكير هذه الأعمال المغمورة، بعد "محيط المحيط" للبُستاني (1819 - 1883)، كتابُ "مَتْن اللغة"، بأجزائه الأربعة، الذي ألّفه اللغوي الشامي أحمد رضا (1872 - 1953)، المولود في مدينة النبطيّة جنوبي لبنان

ففي سنة 1930، كلّف المَجمع العلميّ العربي في دمشق هذا الشيخَ بِإعداد معجَمٍ مُطوّل، يرتّب فيه ما تناثَر من معاني العربيّة في بطون المُطوّلات اللغويّة القديمة، على أن يضيف إليها ما استُحدِث من المفردات الطّارئة في العقود الأولى من القرن العشرين. قَبِلَ أحمد رضا هذه المهمّة الصعبَة وأمضى سنين طويلةً في جَمع ما ورَد في المتون القديمة وتنسيقها، وأعلاها خمسةٌ: "لسانُ العرب" لابن منظور، "القاموس المحيط" للفيروزآبادي، و"التاج"، وهو شرح "القاموس المحيط" الذي وضعه الزبيدي، مع "أساس البلاغة" للزّمخشري و"المصباح المنير" للفيّومي. فكان يقارن شروحَها وينقحها ويبسطها، ويضيف ما وَرَد في المعاجم التي صيغت أواخرَ القرن التاسع عشر، رغم سوء ظنّه بها.

يصلح توطيء المعجم، الغنيّ، مقدّمةً عامّة للغة العربية

فقد أضاف إلى المتن الكلاسيكي المُولَّدَ من الكلمات ثمّ أفرَد لها كتاباً خاصّاً سماه "التذكرة في الأسماء المُنتَخَبَة للمعاني المستخدَمَة"، وعَدَدُها، آنذاك، زُهاء 758 كلمة، 132 من تَعريبه هو بنَفسه، والبقيّة من نَتائج أنظار المجامع اللغوية، في مصر وسورية. وهو ما يؤكّد أنّ الرّجل كان من آباء التوليد المَنْسيّين، مع أنّه أثبَتَ عشرات المصطلحات حسبَ قواعد الاشتقاق والاستحداث. ولم يُهمل الكلمات العاميّة التي لها أصول فَصيحة، فردّها إليها وأفردها بتأليفٍ: "ردُّ العامي إلى الفَصيح"، وأصدر كلَّ ذلك تدريجيّاً ضمن الأعداد المتابعة من مَجلة "المَجمع".

وفي سنة 1947 أي بعد سبعةَ عشر عاماً قضاها في التدقيق والتحقيق، أتمّ هذا العملَ وجهّزه للطبع، ولكنْ لم يَهدأ باله حتّى ألحق به "الوَسيطَ" و"الموجز"، تبسيطاً لهذا المتن واختصاراً له، حتى يَستَفيد منه الطلبة المبتدئون.

وقد وطّأ رضا لهذا المعجم بِمقدّمة نظريّة بيّن فيها القواعدَ العامّة التي صدرَ عنها في إنجاز "مَتْنه"، وما ضمّنه من آراء حول اللغة وأصلها التواضعي وحاجة الإنسان إليها وطابَعها الاجتماعيّ-الاصطلاحيّ، مع تذكيرٍ بتاريخ الضاد وأهمّ مواطن نشوئها وأبرز التطوّرات التي شَهدتها، وهو ما يصْلح أن يكون "مقدّمة" عامّة للضاد، نأمل أن تُطبع على حِدة وأن يَتَوسّع فيها أهل الاختصاص.

أمّا منهجه في ترتيب الكلمات، فيعتمد أصلَ المادّة، مُجرّدةً من زيادات الحروف، حسب الترتيب الألفبائي. وهذا حالُ معاجم اللغة العربيّة، قَديمها وحديثها. وقد برّرَ اختياره بأنّ غير الضاد قد ينقاد للترتيب على حروف الكلمة، ولكنْ تَمنَع منه طبيعتُها الاشتقاقيّة. وضمن شرح المادّة يبتدئ بالمُجرّد فَالمزيد؛ وفي الأسماء، يبدأ بمفتوح الفاء ثم مَضمومه، فَالمَكسور، مورداً ما جاء في كُتب الأقدمين من الشّروح مع الإعراض عن الغَريب المَهجور، وإدماج العاميّ ذي الأصول الفصيحة.

إلّا أن فاجعةً رَزَأتِ الشَّيخَ في ابنِهِ البِكر، إذ تُوفّي وليدُه في عنفوان الشباب، ما أثّر فيه وألزمه الفراش وعطّل مواصلة العمل سنتين. وما أن تعافى قليلاً حتّى توفي سنة 1953، بَعدَ أن أصيب بحجرٍ طائشٍ أثناء مظاهرة انتخابيّة في النبطيّة، مدينته، فَحُمل إلى منزلِه ولم يَكد يَصل حتَّى فاضت روحُهُ، هدراً. هكذا، لم يَصدر الكِتاب في حياته، وكاد أن تضيع جهوده سدىً. ولحسن حظّ الضاد، حَمَلت "دار الحياة اللبنانية" آنذاك مشروع نَشره، بمساعدة فاعل خير كويتيّ مجهول، حيث كانت الحاجة ماسّة لطبع هذه الأعمال الخمسة مجتمعةً، وهي متاحة في أيدي الناس منذ 1958.

ويظل تساؤل حارقٌ يؤرّقنا: لماذا لم ينتشِر هذا العمل الجليل أكثر بين الناس؟ ألأنَّه نفسه قد تجاوزته الضاد بعد أن تسارع سَيْرُها وظَهَرت الحاجة إلى مُعجم حديثٍ؟ أم لأنّه اعتمد القواميس القديمة، فعُدَّ مجرّد تكرارٍ وتشذيبٍ لها؟ أم أنّها القصّة الحزينة التي طاولت صاحبَه مع ما هزّ لبنان والمنطقة العربية من أحداثٍ جعلت هذه التحفة المعجميّة تضيع في لظى الطائفيّة؟     


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

المساهمون