صاحبة "السوسنة البرية" التي لم تتوقع النجاة

11 أكتوبر 2020
مجموعة أعمال لويز غليك، من إعلان "الأكاديمية السويدية" عن الفائز بنوبل 2020 (Getty)
+ الخط -

لفتَ أندرس أولسن نيابة عن لجنة جائزة نوبل، التي مُنحت هذا العام لـ لويز غليك، الانتباه إلى عمل الشاعرة الأميركية مردّدًا الحديث عما وصفته في إحدى مقالاتها بـ"فن الاستماع الداخلي" عند كيتس، وفن الاستماع هذا إضافةٌ جديدة إلى الفكرة المجرّدة البحتة عن "رؤية ريلكه". إنه الاستماع حسّيا، على عكس هذه الرؤية، وينطوي على الوصول إلى شيء ما يتجاوز الذات. 

تسأل غليك في قصيدتها "زهور الحقل" المكتوبة على لسان الزهور: 
"هل يكفي
النظر في داخلنا وحسب؟ 
لا – هناك صوتٌ ما يتحدّث معك. 
استمع جيداً"

يتابع أولسن: "في قصائدها تصغي الذات لما بقي من أحلامها وأوهامها". ولمقاربة هذه العبارة فلنقرأ سطورًا من القصيدة التي حظيتْ بإشارةٍ خاصةٍ في اقتباس أولسن، "قطرات الثلج"؛ من مجموعتها الحائزة على جائزة بوليتزر، "السوسنة البرية" (1992)، حيث كتبتْ غليك:
"هل تعرف ما كنتُ، وكيف عشتُ؟ 
هل تدرك معنى اليأس،
إذن لا بد أن الشتاء يعني لك الكثير"

الحرب، في حكم غليك الشعري، يأس التاريخ وتاريخ اليأس

يرتبطُ الشتاء بحالةٍ من المشقّة الجسدية، وفي كثير من الأحيان، بالعَطالة العاطفية. لنتذكر ريلكه مرة أخرى، فقد قارنَ الشاعر الألماني الحالة الموحشة للفراق مع "الشتاء" في إحدى مقاطع قصيدته "سونيتات إلى أورفيوس":
"وهناك تحت الشتاءاتٍ شتاءاتٌ لا نهائية،
لا يستطيع قلبُك تحمّلها سوى بالسُّبات"

لا يحيل الألم إلى أي نوع من الدفء، فالألم تَنَفّسٌ باردٌ للقلب، ثم تأخذ قصيدة غليك منعطفاً آخر: 
"لم أتوقع النجاة 
فالأرض تكبّلني
لم أتوقّع…
أن أستيقظَ مجدداً
لأحسّ أن جسدي في الأرض الرّطبة
قادرٌ على النهوض مرة أخرى، وتذكّر
كيفية التفتّح من جديد بعد ذلك الوقت الطويل
في الضوء البارد
لأوائل الربيع"

يتفتّح ثلج الوجود المتجمد ببطء على زهرة الربيع، من اليأس إلى الوعد. ربما تكون الكلمة الأساسية هنا هي "النهوض". يبتلعنا اليأس في دوامة الذات. فالحياة عبارة عن حركة ضوئية، حيث تستجيب الروح والجسد للضوء. هذا الوعي بحد ذاته يجعلنا نشعر بأننا قد نجونا من الظلام. ينطوي الشتاء في الغرب أيضاً على الحروب. كتبت غليك في "حكاية الرهائن" حول حرب طروادة:
"ماذا لو أنّ الحربَ
لعبةٌ تنكريةٌ ذكورية،
لعبةٌ مُصمّمةٌ لتجنّبِ
أسئلةٍ روحيّةٍ عميقة"؟

قد نتساءل: ما هي الأسئلة الروحية التي تتجاهلها الحرب؟ أعتقد أن سؤال ماهية الحرب، أحد أعمق الأسئلة الروحية التي تتجاهلها الحرب: الموت. تقوم فكرة الحرب بتشويه معنى الموت بفصله عن فكرة الحياة. الحرب هي الطريقة التي يتجنّب بها الرجال أسئلة الحياة. الحرب هي الفشل في الاستماع إلى النفس والآخرين. الاستماع ليس مجرد شيء يربطنا بالسرد اليومي للحياة، بل بفعل أعمق من المسؤولية. وكتبت غليك بسخرية لطيفة في بداية القصيدة:
"هؤلاء
رجالٌ أشدّاءُ، مستعدون لتركِ 
البصيرة للنساء والأطفال"

الحرب عمياء لذلك تعني نهاية البصيرة. يترك الرجال في الحرب عبء البصيرة للنساء والأطفال. فما هو عبء البصيرة هذا؟ لنعد إلى بداية القصيدة: 
"الحربُ عذرٌ معقولٌ 
للغياب، أمّا
اكتشاف قدرة المرء على التحوّل
فليس كذلك أبداً"

فالحرب إذن شكل من أشكال التحوّل، لإشاحة النظر عن مسألة الوجود الملحّة. تختزل الحرب الوجود إلى الغياب، فالحروب يخوضها رجال يريدون الهروب من النشاط الهادف للحياة. لا تتحمل الحرب أي مسؤولية تجاه الحياة، بل تتخلى عن هذه المسؤولية بمجرد أن تبدأ. الحرب، في حكم غليك الشعري، يأس التاريخ وتاريخ اليأس.

تقوم فكرة الحرب بتشويه معنى الموت بفصله عن فكرة الحياة

حتى في الحب لا مفر من اليأس. ففي سلسلة من القصائد بعنوان "صلوات الصبح Matins"، من مجموعتها الشعرية "السوسنة البريّة" (وصفها ديفيد بيسبيل بأنها "نقطة اللقاء بين كتاب أيوب ومزامير داود")، تستكشف غليك الفكرة الملموسة للحب كعطاء لا يرتبط بما نتلقّاه من الآخر: 
"سامحني إذا قلتُ أحبك...
لا أستطيع حبّ
ما لا أستطيع  تصوّرَه، وأنت لا تكشف شيئاً تقريباً:
هل أنت مثل شجرة الزعرور،
الشيء نفسه دائماً في المكان نفسه،
أم أنك أٌقرب لنبتة قفاز الثعلب الشعثاء"

ينطوي الحب عند غليك على ثبات الوحي المتبادل. وتقدّم استعارات تشير إلى أن الطبيعة (البشرية) تخدعُنا بإحساسٍ زائفٍ بكل ذلك التناسق وقابليّة التغيير. الحب عبارة عن رد أو استجابة لرتابة التعبير. الحب الذي يتظاهر بأنه طبيعي للغاية، يعطي انطباعًا بأن وجوده غير حقيقي على الإطلاق. وفي نسخة أخرى من "صلاة الصبح"، كتبت الشاعرة عن علاقتها المتوترة: 
"لكن الغياب
آخر ما يهمّني من بين كل المشاعر الأخرى 
يمكنني الاستمرار هكذا إلى الأبد
أتحدّثُ إلى أزهار البتولا" 

يُظهر استخدام غليك للطبيعة والاستعارات الطبيعية ما يمكن أن أطلق عليه، الرومانسية الساخرة، حيث يتم تقييم المشاعر من خلال ردود أقرب إلى جهود التعبير البشري بدلاً من عدم الاكتراث بالكائن الطبيعي المجرّد.

في هذا الزمن الذي يعاني فيه العالم من سموم الشعبوية العدوانية وضجيجها، يحثّنا صوت غليك الجاد والناقد على التخلي عن الحرب والاستماع إلى أنفسنا والآخرين على الفور وقبل فوات الأوان.

قارن بيان الأكاديمية غليك بإميلي ديكنسون، وهذا ما يستحق لحظة من الاهتمام، حيث يسمع المرء أصداء ديكنسون في قصيدة غليك "لا أستطيع العيش معك"، حيث كتبت ديكنسون:
"كنتَ آمناً دائماً
وكُتبَ عليّ ألّا أكون معك 
كانت تلك الذات جحيماً بالنسبة إليّ" 
تصل الشاعرة إلى مكان فراقهما المقفر حيث تلتقي من خلال سكتات مؤلمة بـ"اليأس".

اختارت الأكاديمية السويدية هذا العام شاعرة تتحدّرُ من عائلةٍ من أصولٍ يهوديةٍ مجريةٍ هاجرتْ إلى أميركا. يمكن أن نستشعر مسحةً من الأخلاق اليهودية-المسيحية المعينة المتعلقة بالسماع في حساسية غليك الشعرية. 

ستبقى أذنها يقظة دائماً ومتحفّزة على الدوام من الحرب والخراب البشري. إن ذلك اليأس الذي يلازم شعر غليك يأس تاريخي ناتج عن فشل التاريخ والثقافة في الإجابة عن السؤال الحقيقي: ما الذي نتطلع إليه. إذا كنا نبحث عن الحب فعلاً، فعلينا أن نصغي ونستمع بهدوء أكثر. 


* شاعر وناقد من الهند
** ترجمة: عماد الأحمد

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون