شوقي بغدادي: مهنة اسمها الحلم

30 يناير 2023
شوقي بغدادي
+ الخط -

من بين جميع الكتّاب السوريين، انفرد شوقي بغدادي الذي رحل من دنيانا، وحده، وبالمطلق، بالقدرة على القيام بأمرين نادرين؛ الأول هو ذلك الصبر الاستثنائي على قراءة الأعمال الشعرية والقصصية والروائية والمسرحية التي يكتبها الشبّان، بصرف النظر عن اسم الكاتب، أو منبته، أو أصله، أو فصله، والثاني هو تلك الذائقة الفنية والأدبية القادرة على اكتشاف المواهب، وتشجيعها، بل مطاردتها تقريباً، في الحياة العامة، إذ كان لا يكتفي بالتحية والتقدير وإبداء الرأي، بل يسعى للتعارف، مع الشباب الذين يؤمن بموهبتهم، وسوف يصبح صديقهم حالاً صارفاً النظر عن فوارق العمر والثقافة والمعرفة والتجربة. كما في الحياة الأدبية حيث يسارع إلى إعلان رأيه وموقفه، في ما إذا كان النص الشاب منشوراً، فيكتب تعليقاً حماسياً علنياً، في إحدى الصحف كي يجعل اسم الكاتب الشاب معروفاً من جهة، وكي يحرجه أيضاً، ويضعه أمام استحقاقات موهبته وخياراته. 

قرأتُ اسم شوقي بغدادي أول مرة، قبل أن أقرأ له، في المقدمة التي كتبها سعيد حورانية، للطبعة الأولى من رواية حنا مينة المعروفة "الشراع والعاصفة" التي صدرت في بداية ستينيات القرن الماضي. كان الكتّاب الثلاثة، قد ساهموا بنشاط في تأسيس واحدة من أهمّ الجماعات الأدبية في تاريخ سورية، وهي "رابطة الكتاب السوريين" التي جمعت العشرات من أسماء الموهوبين من الكتاب في عهد الاستقلال الأول من تاريخ البلاد، أي في تلك السنوات التي كان الأمل في مشروع المستقبل السوري والعربي في بداية ولادته. كان تأسيس الرابطة يتجاوز فكرة الأيديولوجية الضيقة إلى مساحات أكبر وأوسع تشمل التاريخ الآتي كله. 

لا يمكن تجاهل تجربته القصصية عند مقاربة أي تاريخ للقصة القصيرة السورية

ولشوقي نفسه إسهامات متنوعة في الأدب أيضاً، ففضلاً عن أنه قد عُرف بوصفه شاعراً، وكان يتمّ التعريف به، في حياته، وكما يُرثى اليوم بعد رحيله، فقد كتَب القصة القصيرة، وعلى الرغم من أن اسمه لم يكن مدرجاً بين أسماء كتاب القصة، فإن مجموعة مثل "حيُّنا يبصق دماً" أو" بيتها في سفح الجبل" لا يمكن تجاهلهما عند مقاربة أي تاريخ للقصة القصيرة السورية. ولا يُعتدّ كثيراً بالتجاهل الذي عوملت به المجموعتان، أو تغاضي النقد عن مجموعته الثالثة التي أعطاها عنوان "مهنة اسمها الحلم"، إذ إن القصة السورية، مثلها مثل الإبداع السوري كلّه، لم تنل بعد، من الدراسة والبحث والتعريف بها، ما هي جديرة به.

في قصته "مهنة اسمها الحلم"، يقدّم لنا شوقي بغدادي مأساة الإنسان العربي في المجتمع الانتهازي المنافق، إذ بينما يتهمه رئيسه في العمل بالإهمال، وهو بريء في الحقيقة، ويتواطأ الموظفون جميعاً، في الموافقة على التهمة، على الرغم من علمهم ببراءته. ولكن محمود، وهذه هو اسم بطل القصة، لا يستطيع الدفاع عن نفسه إلا عبر الحلم. لا يحلم بالطبع في إعادة تصحيح العالم، بل في تحطيمه. خاصة أنه لا يرى فيمن حوله، بمن فيهم تلك الفتاة التي أحبّها، غير التجاهل والعداوة. صار حلم الانتقام حلم الضعيف المكسور، هو المهنة الخاسرة التي يدمّر فيها النفاق والكذب حياة البريء الصادق.

 

موقف
التحديثات الحية
المساهمون