استمع إلى الملخص
- تركز على تجربة الفحص السنوي للكشف عن سرطان الثدي، واصفةً إياها بأنها مؤلمة جسديًا ونفسيًا، وتستعرض التوتر والمشاعر المختلطة التي ترافقها.
- تعبر عن رغبتها في حملات توعية لمواجهة "سرطان الحرب والاحتلال"، وتتساءل عن تحسين تجربة الفحص، متمنية وجود ذكاء صناعي لفهم معاناة النساء.
لا أدري إذا كان الكتّاب يمرّون بأرقِ أن يكتبوا عن تجاربهم الروحية والجسدية الودودة أو اللدودة كما تمرّ به بعض الكاتبات، أو إن كان ذلك الهاجس لا علاقة له بهوية النوع الاجتماعي بقدر علاقته بنوع تفاعل الناس مع التجارب التي يمرّون بها، أي بدرجة ملاحظتهم واستماعهم لإيقاعهم الداخلي وبطاقةِ تحمّلهم وقدرتهم على التستّر على جراحهم أو رغبتهم في تقاسمها مع آخرين، بما يُرجّح هذا الهاجس كحالةٍ فردية خالصة.
غير أنّ ما أعرفه حقّاً، في علاقتي بهذا السؤال، هو أنّني مهجوسةٌ بالتفكير في كيفية كتابة تلك التباريح الروحية والجسدية التي يشترك في مواجهتها، على اختلاف تجاربها، البشر. ولكنَّ قلّةً من يستطيعون أو يريدون التعبير عنها. مثلاً، تجربة شجن فقد أسنان اللبن ودهشتها، تجربة إدراك الذات الأولى، تجربة الانتقال من الطفولة إلى المراهقة بما يعتريها من تحوّلات مفاجئة جارفة، تجربة الفقد المفاجئ أو تجربة الحياة في كنف الموت.
وكلّما عاد شهر تشرين الأوّل/ أكتوبر من التاريخ الميلادي، عاد لي هاجس التفكير في كتابة تجربة جسدية روحية مشتركة بيني وبين نصف نساء العالم؛ حيث يضجّ هذا الشهر بالحملات العالمية لإحيائها في صدور النساء في محاولة للحماية من السرطان.
ليت حملات مماثلةً تُخاض ضدّ سرطان الحرب وسرطان الاحتلال
ألا ليت حملات مماثلةً تُخاض ضدّ سرطان الحرب وسرطان الاحتلال الذي ينهب حياة الأبرياء من دون أن يكون منه درع أو له "ماموغرام" (تصوير الثدي الشعاعي).
وعوداً على بدء، منذ دخلت الأربعين وصار لزاماً عليَّ أن أمرّ بالتجربة الوردية (التي ليست ورديةً البتّة إلّا اللهمّ بما قد تُجنّبنا بها إرادة الله من أخطار داكنة)، لم أكفّ سنوياً عن تجرّع آلام تلك الآلة التي بغير رحمة تقبض على تلابيب الصدر وبكل ما في ملمسها البارد من قسوة تعصر الجسد والروح في عجينة واحدة وتحيلهما إلى ما يشبه التذرّي لهباء.
أجلس في شهر أكتوبر من كلّ عام بغرفة الانتظار مع عدد يزيد أو ينقص من النساء على مشارف الأربعين إلى ما بعدها من اندلاعات العمر أو احتدام الشفق، متوجّسةً أحاول التشاغل عن توتّري بالتبسّم في وجوه رفيقات اللحظة أو الإصغاء لدقّات القلوب المتخفّية في أحاديث مقتضبة مغرقة في الاغتراب عن موضوع اللقاء، فلا تزيدني محاولة قراءة تلك الوجوه النسائية المختطَفة مثل وجهي إلّا تبعثراً بين عشب الأمل ويباس اليأس. لا شيء يشغلني عن طفولة وجداني في تلك اللحظة والشوق المبرح لحضن أُمّي إلّا توقُّع الأسوأ لا سمح الله، فأحاول التخفّف من وقع الوجع الصاعق المنتظر بندى الدعاء.
أفكّر ألم يكن ممكنناً لمن اخترع الماموغرام أن يجعله أقلّ غلظةً أو يخلط ملمسه الشرس بشيء من الحنان كما ترشّ الأمّهات الشهد على علقم مواجهاتنا اليومية الصغيرة؟ تردُّ مسؤولة الأشعّة، وكأنّها سمعت تفكيري دون كلمات: "الماموغرام الآن يُعتبر رؤوفاً جدّاً بالمقارنة مع ما كان عليه الأمر في الثمانينيات. كان لا يقلّ عن مقصلة آنذاك"، ثم تضيف: "لا شيء يعادل فرصة النجاة من السرطان بإذن الله".
أجد نفسي أبسمل بابتهال وأقرأ المعوذتَين في سرّي بتبتّل وكأنّه آخر العهد بقراءة القرآن لا سمح الله... فلا ألبث أن أحسّ بسكينة تسري في دمي بما يسمح لي بسماع هواجسي، وهي تُسائل الماموغرام أسئلة وجودية وفلسفية لا أظنّها بعد قليل ستكون عصية على الإجابة على الذكاء الصناعي وإن تكتّم عليها ذكاء البشر أو مكرهم السياسي.
أيها الماموغرام هل أصغيت قطّ للصرخات المكتومة خلف الشفاه المطبقة؟
هل سمعت تكسُّر الزجاج على المرمر؟ هل أحسست بتشظّي الروح والجسد لحظة اصطدام الطير بالجدار؟ هل بلغك همسٌ ليس صمتاً وليس كلاماً؟
تنادي اسمي الممرّضة. أدخل غرفة الأشعة المثلجة. هناك سيّدة بإخلاص تعقّم سطح الآلة بالحيادية نفسها التي ستناولها قطعة من روحي. أحبس أنفاسي خجلاً من مقارنة ما يجري في أكتوبر من العام الماضي إلى هذا العام من محو جماعي متعمّد للنساء وأُسرهنّ على أرض غزّة، وأُحسّ بأنّني أنجح لأوّل مرّة في إخفاء جزعي أمام الماموغرام.
* شاعرة وكاتبة وأكاديمية من السعودية