"شبكات" غاليري المرخية.. خيالات ترشح من السطوح والبرونز

30 يوليو 2024
من المعرض، تصوير: حسين بيضون
+ الخط -

يقدّم غاليري المرخية القطري في مواسمه الممتدة على مدار العام مشروعات فنية جماعية تكاد تنفرد بأفكارها بين الغاليريات والمؤسسات الفنية المحلية، ومن ذلك المعارض التي تقوم على شكل فني واحد يطرحه الفنانون من زواياهم المختلفة، أو استضافة غاليريات عربية تفتح الطريق للتعرف إلى مدونة بصرية تمثل مسارها الفني عبر عقود.

وبهذا يجيء عنوان المعرض الحالي المقام في مقر الغاليري في كتارا "شبكات 2" حتى 12 سبتمبر/ أيلول المقبل، بالشراكة مع قاعة الزمالك للفن في القاهرة، وقد سبقته العام الماضي الدورة الأولى "شبكات 1" مع غاليري "فري هاند" الدمشقي. علماً بأن التعاون بين المرخية والزمالك أنتج العام الماضي معرضاً ضخماً لمسيرة ستين عاماً جمعت اثنتين من علامات التشكيل الاستثنائية في مصر وهما مصطفى عبد المعطي ورباب نمر في معرضهما المشترك "رفقاء عمر".

وبدت هذه التجربة فاتحة شهية، ليكون معرض "شبكات 2" أوسع تمثيلاً لمنتخبات من غاليري الزمالك لاثني عشر فناناً وفنانة، حضرت أعمالهم نيابة عنهم، وفنانين اثنين من قطر. وهم بالتفصيل من مصر مصطفى الرزاز، ورباب نمر وأيمن سعداوي، وجورج فكري إبراهيم، وسام شندي، وسهير العدوي، وفرغلي عبد الحفيظ، ومحمد صبري، ومصطفى عبد المعطي، ومصطفى الفيومي، ونعمت الديواني، وياسمين الحاذق، ومن قطر سلمان المالك وأحمد نوح.

تتيح رحلة المعرض تأمل أربعة عقود من المسارات الفنية

لذا فالصبغة العامة الطاغية هي لقاعة الزمالك المعروفة بالتزامها الشديد والنوعي في المشهد المصري منذ ربع قرن، حتى يمكن القول إن المعرض يضم في إطاره فنانين قطريين والعكس صحيح كذلك.

ولدى المعرض المقام ثمانون عملاً، صممت بروح سينوغرافية لا تقسّم أعمال الفنانين في زوايا كل واحدة على حدة، بل اعتمدت تنسيقاً جمالياً تتداخل فيه التجربة المشهدية بحيث تصبح الدلالات متنقلة بصرياً تنقطع هنا وتتواصل هناك.

عمل لمحمد صبري، من المعرض، تصوير: حسين بيضون
عمل لمحمد صبري، من المعرض، تصوير: حسين بيضون

وبنظرة أفقية يغدو ممكناً تقسيم المعرض إلى مجالي البرونز واللوحات التشكيلية، وجميعها كانت ذات أحجام صغيرة ومتوسطة، في هذا الفرع من غاليري المرخية في كتارا والأصغر مساحة مقارنة مع المقر الرئيسي في مطافئ - مقر الفنانين

كلا الفنانين القطريين المالك ونوح من جيلين فنيين بعيدين عن بعضهما. المالك دخل الساحة الفنية في الثمانينيات الماضية ونوح نشط في المشهد التشكيلي منذ بضع سنوات، والأخير كانت مساهمته في المعرض بورتريهات تعبيرية محاطة بقصاصات جرائد.

عمل لأيمن سعداوي، من المعرض، تصوير: حسين بيضون
عمل لأيمن سعداوي، من المعرض، تصوير: حسين بيضون

وكانت المناسبة الحالية تجعل المالك المتحدث الوحيد عن جيلين عربيين، معتزاً بوجود أعماله رفقة أسماء شيوخ فن ومنهم مصطفى الرزاز (82 عاماً) الذي ما زال على نشاطه وقدم لوحات هي الأحدث بين المشاركين، وقد كان المالك أحد طلابه إبان دراسته الفن في مصر نهاية السبعينيات.

بدت لوحات الرزاز الصغرى السبع المرسومة بالزيت على الكنفاس في مساحة بقياس 12 × 12 سنتمتراً، ملائمة كما لو أنها بطاقات بريد من مصر القديمة، والعنصر الأساسي فيها رؤوس أحصنة وطيور والوجوه النسائية لونها لون الطين النضيج والعيون واسعة والأنوف نوبية بقصبتها المستقيمة.

عمل لسهير العدوي، من المعرض، تصوير: حسين بيضون
عمل لسهير العدوي، من المعرض، تصوير: حسين بيضون

أما سلمان المالك فلوحاته التي تعود إلى عشر سنوات هي طابعه الذي طبع الجزء الأوضح من مساره تحت عنوان "نساء وأشياء أخرى"، ودائماً تبدو الكتلة السوداء ذات الشكل الأنثوي هي المرأة بالعباءة، وهي قادرة على أن تفرض سطوتها اللونية، لتكون الألوان المشرقة مجال "الأشياء الأخرى" من زركشات تحت العباءة وعلى الوجوه وفي الفضاء الذي تتحرك فيه حول الكتلة السوداء.

تتيح رحلة المعرض مجال تأمل جيداً في أربعة عقود من المسارات الفنية طرحت أعمالاً تعود إلى مطلع الثمانينيات، وأخرى من التسعينيات والباقي الأعم منذ السنوات الأخيرة، وخصوصاً سنوات جائحة كورونا.

أقدمها تعود إلى مطلع الثمانينيات للفنانة رباب نمر ومصطفى عبد المعطي. في لوحات رباب نمر حبر على ورق استعادة متجددة لهذا المجال بالأسود والأبيض الذي أنتجت فيه الكثير من الأعمال، مقابل مسيرتها التي احتفظت بباليتة لونية خاصة.

عمل لرباب نمر، من المعرض، تصوير: حسين بيضون
عمل لرباب نمر، من المعرض، تصوير: حسين بيضون

إنها هنا تدخل عالماً يحتاج إلى البحث المضني عن درجات اللون بين الأسود والأبيض. كل ما يلزمها خيوط وذرات سوداء تتحول إلى بشر بوجوه مسطحة تلتقطهم اللوحة من الشارع وبموافقتهم تحبسهم في إطار.

أعمال مصطفى عبد المعطي بعضها مما يعرف بـ"مجموعة روما" بين عامي 1994 و1999، بما فيها من تجريد غنائي من الباستيل، ومعها لوحتان مائيتان تعودان إلى عام 1982، تظهر فيهما رموز كالخطوط الهيروغليفية من مثلثات ودوائر على خط الأفق.

وثمّة في أعمال فرغلي عبد الحافظ الستة خطوط تبدو من الوهلة الأولى اسكتشات أولية للوحات قادمة، أو تمارين على الرسم الكاريكاتيري، غير أنها ليست كذلك. إنها خطوط عريضة تشبه ألعاب الرسم بحركة أو حركتين، ثم ما تلبث أن تملأ الفراغات بوجوه تحمل أشخاصاً وعلامات رمزية وحيوانات.

عمل لمصطفى الرزاز، من المعرض، تصوير: حسين بيضون
عمل لمصطفى الرزاز، من المعرض، تصوير: حسين بيضون

وفي لوحتين لجورج فكري وهما تحت عنوان "ذاكرة المشهد" تتجمع فيهما صور الذاكرة في حفلة لونية، والوجوه تمر سريعة، كما لو أنها لقطات سريعة للكاميرا أو رمشات عين. إحداهما نظرة طائر لخمس نساء يجمّلن امرأة نودي عليهن فنظرن إلى الأعلى وكانت اللقطة. 

ربما من أكثر الخيارات اللونية طاقة تعبيرية جاذبة التقاء الأسود بالألوان الحارة والباردة. وفي لوحات محمد صبري الثماني المائية والحبرية ما يحقق هذا الهدف، ولكنه فوق هذا سمح بسيولة الألوان أن تحمل المشاهد إلى سلسلته المعنونة "رحلة إلى الجنة" في غزارة من صور وخيالات مصر القديمة ومن ريفها الذي يستلهم الجنوب الأفريقي ويحمل ماءه الغزير شمالاً فيكتسب خصوصيته باللهجة المصرية.

هذه الجنة محتشدة بالزخارف المائية والكائنات من جواميس وأسماك وتماسيح وهي جميعها مع الرجال والنساء فارعي الطول، لا يحدثون عن شيء سوى أنهم يجمعون الصور من الجنة ويتركون للمتلقي حرية القول والصمت.

نعمت الديواني في ثلاث لوحات تعود اثنتان منها إلى عامي 2018 و2019 وكانت ضمن سلسلة "خيال مؤكد" التي تجمعت أخيراً لتعرض نهاية عام 2020، والثالثة من معرضها الذي أقيم عام 2022 "كزهرة الماغنوليا" (أو المانوليا)، وفي التجربة الأولى اغتراف من الخرافات والحكايات الشعبية، والثانية صور ذات الإنسان التي تدور بألفة حول بتلاتها الثلاث.

كانت فنون البرونز ذات كمية وافرة تسمح بتحصيل متعة التأمل في توجهات الفنانين إذ يتعاملون مع هذه الخامة في قطع ترتفع بضع عشرات من السنتمترات على الطاولات ما عدا منحوتة "الأمومة" لسامي شندي الواقفة على الأرض والمصقولة في منحنيات وبروزات جسد المرأة الحبلى مكتفية بهذه الانسيابية دون تفاصيل.

يحدث هنا أن يلتقط الفنان الصورة والحركة ويجسدهما، وتبقى الفوارق على عهدة الفنان الذي اختار ما الذي سيمنحه الثبات والحركة الفنية.

فهذا أيمن السعداوي في أعمال عرضها سابقاً عام 2020، قضى في محترفه زمناً وهو يشتغل على المفردات الريفية وهوامش المدن. هذه امرأة فلاحة على حمار ذي عدلين مملوءين في وقت الحصاد، وهؤلاء ثلاثة في فرقة شعبية ومعهم آلاتهم الإيقاعية الصاجات والطبلة والنقرزان، وفي أخرى شابة تطير مع جديلتها على الأرجوحة المحلقة.

وخيار مصطفى الفيومي ينتمي إلى ذات الحقل الذي لا يعني التطابق، إذ لا تطابق بين لحظتين ولا نبضتين. لكن الحقل الذي نعنيه هو صب البرونز على الصورة الملتقطة من أرواح مختلفة، وفي صف من تماثيل الفيومي هناك النساء الطويلات الحبلى وراقصة الباليه وعازفة الكمان، والمرأة في لحظة انطلاق، مضافاً إليهن نحت لحصان خارج عن النص النسائي على سبيل التنويع.

كذلك الأمر مع سهير العدوي ونسائها البدينات واحدة بفستانها الأخضر متربعة على مقعد بني تغني وتضرب على الطبلة، والبدينة تقود دراجتها النحيلة بخفة، وهي ذاتها على بلكونة معزولة عن المحيط متكئة على حاجزها كأنها مع البلكونة معلقة في الفراغ.

ياسمين الحاذق تخرج عن تقليد البرونز الزاهد في الألوان وتجعل منه حفلة مرحة حتى تبدو كأنها أعمال مختلطة بين الخزف الصيني والبرونز.

يغاير سام شندي هذا الحقل الجمالي ويذهب إلى استلهام الاستعارة الشعرية من المجموعة الصادرة عام 2022 بالإنكليزية بعنوان SEE MY VOICE، للشاعرة تامزين شندي. فالسطوح البرونزية الخشنة توافق نحت الصورة الشعرية المجبولة كالطين بأيد طفولية.

يقف سبعة رجال مشدودين بعضهم إلى بعض كتفاً لكتف ما عدا واحداً يدير ظهره لنا، ثم يذهب البرونز إلى ستة رجال ويجلسهم مكبلي الأيدي إلى الخلف في دائرة كأنهم عقارب ساعة أو كأن الدائرة تقنية عقاب.

لا يلجأ الفنان المصري - البريطاني شندي إلى تنعيم السطوح إلا في منحوتة "الأمومة" وهي خارج هذه السلسلة التي تنتمي إلى معرض واحد سبق أن أقيم أواخر العام الماضي بينما الأمومة كانت ضمن معرضه الأول الذي أقيم في مصر عام 2020.

المساهمون