كانت هناك علاقةٌ مباشِرة بين استكمال استعمار العالم الإسلامي وإلغاء الخلافة العثمانية؛ فمع إلغاء الخلافة، لم يبق هناك تركيز على تمثيل المسلمين في السياسة العالمية، والدفاع عن حقوقهم. وقد أدّى هذا الوضع إلى سيطرة الدُّول العظمى بسهولة على كلّ الأراضي المسلمة.
كانت هناك ردود فعل مختلفة من العالم الإسلامي ضدّ الخلافة والاستعمار؛ فعلى سبيل المثال، كان مِن بين ردود الفعل هذه، تعبئة المجتمع المدني في داخله، وتجاوُز حكّامه، وإظهار التكامُل المباشر مع الشعوب الأُخرى وإظهار الإرادة. بدأ هذا المسعى وهذه الإرادة في مصر في فترة زمنية قصيرة، منذ أواخر العشرينيات، والحركة الإسلامية كذلك، بقيادة المودودي، التي بدأت من الهند، ورافقتها حركة في باكستان أيضاً، وقبل كلّ شيء، كانت الخطابات والطريقة التي تحرَّكتا بها والشرائح الاجتماعية التي اعتمدا عليها، متشابهةً إلى حدّ كبير منذ البداية، فتفاعلَت مع بعضها البعض.
وسرعان ما أنشأت هاتان الحركتان المدنيّتان شبكةً من التواصُل والتفاعُل، والتغذية الثقافية، على مستوى المجتمعات في العالم الإسلامي بأسره، ممّا خلق عالماً إسلامياً سياسياً منفصلاً، قسّمه إلغاء الخلافة وإقامة دول قومية، حافظوا على الشعور بالوحدة على قيد الحياة كشوق وفعل مثالي.
وقد تمّت ترجمة كتب للأسماء الرئيسية لكلتا الحركتين إلى اللغة التركية منذ ستّينيات القرن الماضي. كان لهذه الكتب تأثيرات عميقة على الأشخاص الذين حُرموا من التعليم، والفكر الإسلامي لسنوات عديدة في تركيا. وحتى هذا الوقت، أصبح التفاهم الإسلامي، الذي عاش في صورة نمطية تقليدية جدّاً، بل ووطنية جدّاً، حركة تطمح إلى إعادة تأسيس مركزية القرآن، والإرادة، والاجتهاد، والتوازن الذهني تحت تأثير هذه الترجمات.
وُضعت أعماله على طاولة القارئ التركي، وكان من الصعب إيقافها
وعلى وجه الخصوص، كان تأثير الإخوان على تطوُّر الفكر الإسلامي، وتطوُّر السياسة في تركيا كبيراً جداً. وقياساً بتأثير الإخوان على البلدان الإسلامية الأُخرى، ربما تكون تركيا هي المكان الوحيد الذي يكون فيه للإخوان تأثير على التفكير فقط، أكثر من التأثير من خلال وجود تنظيم مباشر.
وقد عُرفت أعمال سيّد قطب لأوّل مرّة في تركيا بعد عام 1960، وأصبحت مثيرة للاهتمام، ومهّدت الطريق للعديد من النقاشات. والمفارقة، هنا، أنّها عُرفت لأوّل مرّة بواسطة المخابرات التركية، ليس بسبب جودتها وفعاليتها بالتأكيد، لكن على أمل أنْ تلعب دوراً مهمّاً أمام الخطر الشيوعي في تركيا، وتمت ترجمتها بالفعل. وفي الحقيقة ليس من المستغرب أن يجذب قطب انتباه ضبّاط المخابرات، وأنهم وجدوا بعض الأفكار المفيدة فحاولوا تمهيد الطريق لها.
إنّه أمرٌ مُثير للسخرية للغاية، لكنّه مفهومٌ بالنسبة إلى الألعاب الأيديولوجية للسلطة، التي تقوم بتقييم كل شيء كأداة لها؛ القرآن والسنّة والصوفية والجماعات، والإسلام بأسره. ومع ذلك، هناك شيء واحد، يذكّرنا به حمزة تركمان في ندوته الإسلامية التي نظّمتها بلدية زيتين بورنو، حين يقول: "تُرجم كتاب 'معالم في الطريق' بعد نشر كتاب 'العدالة الاجتماعية في الإسلام'، بتشجيع من المخابرات، على أمل أنْ يكون مفيداً في مكافحة الشيوعية، ولقد شعرت المخابرات التركية بعد ذلك بقلق كبير فحظرت الكتاب، ومن بعده كتاب 'هذا الدين'، وصارت الكتب الدينية في وقت لاحق في نفس مصير الكتب الشيوعية الأُخرى. ومن الواضح أنّ المخابرات كانت متسرّعة للغاية بشأن قطب".
وأتذكّر في هذا السياق، أنّه حتى وإن كان صحيحاً أن كتاب "العدالة الاجتماعية في الإسلام" قد تُرجم من قبل المخابرات التركية، فقد قُدّر لقطب في النهاية أن يُوضع على جدول أعمال القارئ التركي، ولم تتمكّن المخابرات من إيقافه. وحقيقة أخيرة لا جدال فيها، أنّ إعدام قطب منحه شعبية غير عادية في العالم الإسلامي بأسره، خصوصاً بعدما كتب سيزاي كاراكوك مقالاً مؤثّراً للغاية بعد إعدام قطب.
كما تنبغي الإشارة إلى أن المفكّر اليساري دوغان آفجي أوغلو، قد وجد في كتاب "العدالة الاجتماعية في الإسلام" مادّة ملائمة لإمكانية تأسيس حركة يساريّة للمسلمين في تركيا، وهي خطوة يمكن اعتبارها تاريخية من أوغلو آنذاك، لأنّ أغلب اليساريّين الأتراك يرون أن جميع الإسلاميين رجعيّون.
* كاتب وأكاديمي وسياسي تُركي، والمقتطف فصلٌ من كتابه "سيّد قطب بين غلوّ محبّيه وظلم ناقديه - اللاهوت السياسي". ترجمة: أحمد زكريا