لم يكن التنقّل المكانيُّ الصفةَ الوحيدة التي اتّسمت بها مسيرة التشكيلي الهندي سيّد حيدر رضا (1922 ــ 2016)، الذي غادر بلاده عام 1950 للعيش في باريس حتى 2011، ليعود بعد ذلك ليقضي سنواته الأخيرة في الهند. فبالتوازي مع هذا الانتقال من شرق المعمورة إلى غربها، سافر الفنّان أيضاً بين طرفَيْن قَصيَّين من الرؤية الفنّية: من اللوحات الانطباعية التي صوّر فيها مشاهد ومناظر طبيعية خلال العقود الأولى من تجربته، إلى ميلٍ نحو التجريد والتجريب اللوني اللذين سيطبعان أعماله اللاحقة.
"سيّد حيدر رضا (1922 ــ 2016)" عنوان المعرض الاستعادي الذي يقيمه "مركز بومبيدو" للفن الحديث والمعاصر في باريس منذ الخامس عشر من شباط/ فبراير الماضي، ويستمرّ حتى منتصف أيار/ مايو المقبل؛ ضمن مسعىً لتسليط الضوء على "التطوّرات الشكلية والمفهومية لواحدةٍ من التجارب الحديثة النموذجية في ما يخصّ الديناميات العابرة للثقافات ورهاناتها على المشهد الفنّي في القرن العشرين"، بحسب بيان المنظّمين.
تنتقل لوحاته إلى التجريد ومركزية اللون بدءاً من منتصف الستينيات
يضمّ المعرض ما يقارب المئة عمل، بين لوحات زيتية وأُخرى على الورق، يعود أغلبها إلى السنوات ما بين عامي 1950 و1990، وهي أربعة عقود وضع خلالها حيدر رضا القسم الأكبر من إنتاجه. ويوزّع القائمون على المعرض هذه الأعمالَ زمانياً في الصالات، بحيث ينتقل الزوّار من بدايات الفنّان، بُعيد وصوله إلى فرنسا، ووصولاً إلى مرحلة النضوج.
هكذا، سيكتشف الزائر، وهو يشاهد لوحات حيدر رضا خلال الخمسينيات، إتقانه لتصوير المناظر الطبيعية، حيث يرسم مَشاهد حَضرية من بيوت وأحياء، ضمن تكوينات تستعير من الفنون المشرقية على مستوى المنظور، بحيث تتراكب العناصر ــ كالمنازل ــ على سطح اللوحة، مانحةً إيّاها في الآن نفسه بُعداً حداثياً يكشف عن تمكُّن الفنان وقدرته على الجمع بين مصادر ثقافية متعدّدة: بين التكوينات الموروثة من ثقافته المتأثّرة بالفنون العربية والإسلامية، وبين التعبيرية الفرنسية، التي اكتشفها خلال دراسته في باريس.
ومع التقدّم في المعرض، وفي تجربة سيّد حيدر رضا، زمانياً، يخفّ حُضور الأشكال التي يمكن التعرُّف إليها، وتحضر بدلاً منها، انطلاقاً من منتصف الستّينيات، تنويعاتٌ وخطوطٌ وبُقَع لونية يُعطيها الفنّان كلّ مساحة لوحاته، في مسعى للتعبير بشكل آخر عن الانفعالات التي يريد تصويرها وإبانتها. هنا، يتحوّل اللون إلى العنصر الأساسي في اللوحة، وهو الذي كان حاضراً بشكل قويّ في تصاويره "الواقعية"، لكنْ بوصفه عنصراً لملء الفراغات ومنحها هويّتها.
أمّا في هذه اللوحات المتأخّرة، أي بين منتصف الستّينيات وحتى التسعينيات، فإن اللون يُصبح كلّ شيء تقريباً، ولا تُنازعه على سطح اللوحة إلّا كتاباتٌ هنا وهناك بالسنسكريتية، أو أشكالٌ هندسية (دوائر، ومربّعات، ومستطيلات) تُحيلنا إلى اطّلاع الفنّان على تجارب تجريدية أوروبية، كما عند كاندينسكي.