حَكم مفهوم التقدم كلّ إيديولوجية عصر التنوير الأوروبيّ، خلال القرن الثامن عشر، إذ حقّقت الاكتشافات الجغرافيّة والتطوّرات العلميّة نجاحاتٍ جعلت المثقّفين يتطلعون إلى نقل نموذجه إلى أفقَي الفكر والسياسة. وقد تعلّق مفكّرو عصر النهضة العربية، في القرن التالي، بهذا المفهوم دون أن يضعوه تحت أنظار النقد، لأنهم رأوا فيه الغاية المنشودة والمفتاح السحري للخروج من التأخّر. وقد كانت هذه النظرة الانبهاريّة رجع صدىً لانبهار مفكّري الغرب أنفسهم بهذا المفهوم الساحر، حتى إنهم لم يخرجوا من آثار سحره إلا منذ عقود قليلة.
ولا تقتصر مراجعة مفهوم التقدّم في زمننا على الكتابات الفكرية أو التاريخية، فقد أدلى الأدب أيضًا بدلوه في هذا التوجه، ومن ذلك رواية فرنسية صدرت الشهر الماضي، عن "دار كلمة" في تونس، للكاتبة الفرنسيّة سيلفي كاميه، إذ تستدعي فكر جان جاك روسو، وهو أحد رموز عصر التنوير، وتذوّبه في المادة الأدبية تمامًا كما كان يفعل هو، حتى احتار المؤرّخون في تصنيفه أديباً أم فيلسوفاً.
عنوان الرواية (Le nez dans le ruisseau) مُربكٌ في اللغة الفرنسية ذاتها، فهو يحيل إلى اسم روسو لكن مع تحريف بسيطٍ يشكّل استعارة موسيقيّة تقوم على الجناس بين كلمتي Rousseau وRuisseau. أمّا إذا حاولنا ترجمة العنوان إلى العربية فالإرباك أكبر، فالنقل الحرفيّ يعطينا: "الأنف في الغدير" (أو في الجدول)، وهي بذلك لا تبدو أكثر من صورة متخيّلة لن تسعف القارئ بالدخول مبكّراً في أجواء النصّ الأدبي، كما تفعل العناوين عادةً.
مُختصر الحبكة سردٌ لعودة جان جاك روسو إلى فرنسا وانبعاثه من جديد ليرى نتائج التقدّم التي حقّقتها الحضارة المعاصرة ولا سيّما على المستوى المادّي. وكأنما تضع المؤلّفة أحدَ رموز عصر التنوير، ومروّجي "يوتوبيا التقدّم"، أمام ما آلت إليه هذه المقولات حين تجسّدت في التاريخ، ليجد روسو نفسه مضطرًّا إلى مراجعة قناعاته ومواقفه. وهكذا، فالبناء السردي الذي يحاكي هذه "الرجعة" بسيطٌ في ظاهره، فهو إحداث مواجهة بين حساسية روسو وظواهر الحضارة المادّيّة التي لا يفقه حقيقتها ولا يدرك مجالات استعمالاتها، إذ يستفيد الناس من هذه الأدوات دون فهم المفاهيم الذهنيّة التي تحرّكها ولا المنطق العلمِي الدّاخلي الذي يحكمها.
تستعير كاميه شخصية الفيلسوف لتُسائل فكرة التقدّم
وليس هذا النوع من الحبكات بجديد على القارئ الفرنسي، ولا حتى العربي، فقد كان فِي أدبنا المعاصر نصّ شهير لعبّاس محمود العقّاد عنوانه "رجعة أبي العلاء" (1939)، إذ أجرى على لسان حكيم المعرّة ــ بعد أنْ ردّه إلى الحياة ــ مناقشة لأهم التيارات والقضايا الفكرية التي هزّت النصف الأول من القرن العشرين، وطوّف به سائر بلدان أوروبا وَالمشرق لِيعرض ما كان يمكن أن يعتقده المَعرّي حيالها، وما هِي إلا آراءُ العقّاد صاغها على لِسان هذه الشخصية المنبعثة من وراء القرون.
ولذلك لن تكون فكرة ابتعاث الموتى بِدعاً من القول، إلّا بالنظر إلى ما يوضع على ألسنتهم من الآراء، وما يجرى من المواقف والكلمات التي تتطابق بشكل متفاوت مع مواقف صاحبها الذي أرجعها إلى الحياة، وهذا عين ما لاحَظه طه حسين بعينه الناقدة، حينما كتب عن "رجعة أبي العلاء" لصديقه العقّاد، إذ عاب عليه إجراء آراء ما كانت لتجول بخاطر حكيم المَعرّة.
وهذا ما يمكن قوله مع كتاب كاميه التي أطلقت العنان لخيالها في مصاحبتها لروسو وهي تنتقل به من القرن الثامن عشر إلى العقد الثاني من الألفية الجديدة، إذ جعلته يواجه أمهات القضايا التي تزعج ضمير مثقّفي اليوم، معاصريها هي لا معاصريه هو. وهي إلى ذلك تضعه في اشتباك مع قارئ جديد بات ــ في الغالب ــ يعزف عن العودة إلى نصوص قديمة كنصوص روسو، وبالتالي لن يستأنس بها في فهم شيء من الواقع الحديث. وهنا تعمل كاميه على سدّ هذه الفجوة عبر التخييل، ولا سيّما معضلة التقدّم المادّي والتكنولوجي الهائل ــ وهي قطعاً أبعد ما تكون عن وصفها معضلة في زمن روسو ــ ومن ورائها تضعه أمام تناقضات مثل سوء توزيع العدالة بين الشمال والجنوب، ونضوب المشاعر الإنسانية، وتقلُّص التواصل بين أفراد المدينة الواحدة. وكأننا بكاميه تنادي من طرف خفيّ بتغيير نظام القيَم بأسره حتى يتلاءم مع التقدّم المادّي ولا يعارضه أو يناكده.
هذا وَقد قسمت كامي هذه الرواية إلى ثلاثة فصول، في كلّ فصلٍ أبواب متفاوتة الطول، تروي في كلّ واحدٍ منها مظهراً من مَظاهر الحداثة التي احتكّ بها روسو فتحسّسها وَاجتهد في فهمها عَبَثًا. كما أنّها تخيلته يطوف بين المدن والمناطق الفرنسية والأوروبية مثل سويسرا، موطِنِه الأصلي، وَفي كلّ مرحلة من مراحل تطوافِه تلك كان يُسائلُ الزّمن وَيُداعبُ الدّهر وقد مرّ منه قرْنان، يُقارنُ بين الماضِي والحاضِر وَيشاكس التحوّلات العميقة التي طرأت على الناس ومجتمعاتهم.
يجد روسو نفسه مضطرّاً إلى مراجعة قناعاته ومواقفه
كما تعالج كاميه معضلة كبرى من معضلات المعاصرين: البيئة ومأساة الطبيعة التي طالما جعلها روسو ملاذَه، كما يظهر بجلاء في كتابه الأدبي - الفكري "هواجس المتنزّه المنفرد بنفسه"، حتى عَدّه دعاة حماية البيئة في زمننا أبًا لتيّارهم، وإنْ لم تكن قد ظهرت في زمنه مشاكل التلوّث والاحتباس الحراري. وحين تضعه كاميه في مواجهة مثل هذه المعضلات الحديثة، كان من المتوقّع أن يجد روسو الكثير كي يقوله، كيف لا وهو يلتقي بمحبوبته بعد قرون وقد تشوّه وجهها وغاضت نظارتها وباتت مهدّدة بالتلف وإفناء البشرية معها.
هذا التشويه الذي طاول الطبيعة هو في النهاية من بين نتائج التقدّم، وهذا موطن تناقُض لافت يبرّر انتقاء روسو لبعثه في الحياة المعاصرة. فمن خلاله ــ وهو في موقع الأبوية من فكر الداعين إلى التقدم والفكر المدافع عن الطبيعة في ذات الوقت ــ تندِّد بما ارتكبُه الإنسان المُعاصر من "جرائم" وفظاعات في حقّ الطبيعة وكنوزها من أجل تحقيق ما يعتبرهُ تقدّماً.
وما يلفتُ في الرواية جانبٌ لغويّ طريف؛ ذلك أنّ البطلة لا تني عن التفكير في معاني الكلمات ودلالة العبارات، مقارِنةً بين ما كانت تدلّ عليه في عَصرِ روسو مع آلت إليْهِ في أيّامنا. ممّا جَعل من العديد مِن استطرادات الرواية عودًا إلى التطوّر الدلائلي للمفردات وَبحثاً في الأسباب الداعية الى تحوّلها، لأنها تعكس هي الأخرى بعض مظاهر التقدّم التي عرفَها اللسان الفرنسي في اشتباكِهِ بالواقِعِ المتغيّر. وبذلك تحاول كاميه ــ في كل صفحة من صفحات هذا التطواف ــ ومن خلال محاورة بطلتِها مع جان جاك (وهي غالباً مَا تسمّيه باسمه الأوّل) أنْ تُبرز، من خلال مفردات اللغة وتحوّلات معانيها، ما تغيّر في الفضاء الفرنسي من مفاهيم، خلال فترة زمنية تمتد إلى قرنين ونيْف.
وَأمّا أسلوب الكاتبة فسَمْحٌ متعمق تجمع فيه بين الوصف السلِس والتدبّر المتعمّق في معضلات الإنسان اليوم، وذلك عبر توازن منشود بين التأمّل والقصّ. وهذا مقصودٌ لأنّ الإطار السردي وَابتعاث روسو من مرقده لم يكن سوى ذريعة للنظر في تحوّلات كوكبنا وَاستعادتها من خلال مواقف هذا الفيلسوف الذي طالما جذب إليه المفكّرين العرب.
وبين هذا وذاك اجترحت كاميه حواراتٍ ومقابلاتٍ متخيّلة بين بطلتها، وهي من ورقٍ، وشخصية جان جاك، تُعابثُ وقارَهُ وتدفعه الى الارتباك وتظهر مدى التفاوت الحاصل بين قيَم عصر التنوير وما آلت إليه في مجتمع الاستهلاك وَالعولمة في أيامنا، ممّا يجعل من بعض المشابهة كوميديةً، لكنّها، في الواقع، مأساوية تُظهر مدى ضياعنا.