سيرين غندور تشكيليةٌ لبنانية في مطلع العمر (مواليد 1996). وهذا معرضها الأوّل في بيروت، إلّا أنّنا لن نتعب حتى نجد أنفسنا أمام لوحة متكاملة، وأمام أسلوب. لن نجد في هذه الأعمال ابتداءً أيّ نوع، ولا أيّ قَدْر من الحيرة، ولا أيَّ تعثُّر تجريبي أو فجاجة، أو قلق في الاختيار، أو مراوحة بين لوحات وأساليب.
سنجد أنّ الفنّانة الشابّة بدأت بخطوة واثقة، ولم تتردّد أمام اقتراحات معاصرة وراهنة. لقد وجدت لوحتَها كأنّ هذه كانت تنتظرها، أو كانت حاضرة لها. سنلاحظ أنّ هذه المرأة البدينة في لوحاتها قد تكون هي نفسُها، لكن البدانةَ هذه ليست لقية معرضها "الآن وفي ساعة موتنا" الذي أُقيم مؤخَّراً في "غاليري Mission Art" ببيروت.
سنلاحظها فوراً وسنُفكّر عندها بفنّان كالكولومبي فرناندو بوتيرو. لكنّ لوحة غندور لا تلعب كثيراً على ذلك. هناك بالطبع هذه البدانة التي قد تكون نوعاً من لوحة ذاتية، لكنّ البدانة ليست كلّ شيء في اللوحة. هناك، إلى جانبها أحياناً، جمعٌ قد يكون العائلة أو البيت، جمعٌ غير مطبوع بهذه البدانة بالضرورة، ولا يوحي بها.
مع ذلك تبقى البدانة، البدانة التي نكاد نقول إنّها رشيقة أو إنّها مبنية وعامرة وسلسة... تبقى البدانة موضوعاً متردّداً أو متنقّلاً بين اللوحات، بل تبقى البدانة، على نحو ما، موضوع المعرض، وستكون مع ذلك أوّل ما يلفت إليه. سنقول لذلك إنّ البدانة هي طابع المعرض، لكنّ بدانة سيرين غندور لا تبدو مقصودةً إلّا كواقع سائغ، بل هي تبدو لذلك أكثر ما تكون واقعية. إننا لذلك أمام ما هو تحت الواقع، وإيعازه وجوانيته؛ أي أنّ اللوحة مستغرقة فيه، إنها بدرجة ما وحيُه وعمقه، لا تبالغ فيه ولا تشطح، ولا تحوّله إلى فولكلور أو إلى كاريكاتير. إنّه الواقع في استغراقه في نفسه لدرجة تكاد تكون شاعريةً، بل تكاد تكون غناءً.
إننا سنرى، غير مرّة، هذه المرأة البدينة حاملةً بين يديها أزهاراً، مغمِضة عينيها في رأسها المرفوع على كتفيها وجسدها المتثني الجالس بقوام ممشوق، على رغم بدانته، وسنجد تحاكياً بين الأزهار والجسد والعينين المغمضتين. سنجد أنّ الأزهار الحمراء تضيء على الجسد الغامق والرأس قاتم الملامح. هنا لا تبدو البدانة لافتة سوى ما يقوله الجسد، ما يتناغم مع سهوم الرأس وانقباض اليدين وإشعاع الأزهار؛ أي أنّ الإيحاء هو ذاتُه بين أشياء اللوحة وموضوعاتها.
على خلاف بوتيرو، لا تتعامل لوحاتها مع البدانة بوصفها غريبة
قد يخطر لمن يشاهد معرض سيرين غندور أنْ يفكر بالكولومبي بوتيرو الذي تبدو البدانة لافتةً في لوحاته، بل تبدو وكأنّها موضوعه وأسلوبه، أو أنّها محور اللوحة ومحور الأسلوب. قد يكون بوتيرو سهّل لسيرين وسواها اللجوء إلى البدانة في اللوحة، غير أنّ بدانة لوحاته هي، بالتأكيد، غير البدانة في لوحات غندور، وغيرها في وجهتها ومرماها وأسلوبها. تتعامل لوحاته مع البدانة بوصفها غريبة، فيما البدانة في لوحاتها غير ذلك. إنها لا تحوي أيّ درجة من الغرابة، بل هي حقيقية لدرجة تجعلها أكثر من الحقيقة وما دونها.
لوحات بوتيرو تشهر البدانة وتلعب عليها وتقدّمها، فيما تجده غريباً وملعوباً به ولهواً. الأمر ليس كذلك في لوحات غندور. حين ننظر إلى بديني بوتيرو نجد في ذلك قدراً من اللهو، قدراً مِن اللعب إلى درجة اللهو، أي أنّ وجوه أشخاص بوتيرو المستديرة وأجسادهم المكتّلة في دوائر تُحوّل اللوحة إلى لعبة دوائر. نحن هكذا قريبون للغاية من الكاريكاتير، من اللهو الطفولي.
بُدناء بوتيرو هُم هؤلاء الأطفال الأبديون، وبدانتهم هي هذا المضحك الغريب الذي يدخل على الأجساد، ويُحوّلها إلى نوع من كتل تكاد تلتصق بالأرض، وتتردّد بين قزمية منتفخة وضخامة عجيبة، أي أنّ البدانة لدى أشخاص بوتيرو هي درجة من السخرية من الجسد ونوع من افتضاحه. إننا هكذا قريبون من السذاجة قربنا من الكاريكاتير. ملونة بوتيرو تلعب في نفس الاتجاه، إنها ملونة زاهرة ملعوبة وشبه طفولية.
ليس الأمر كذلك في لوحات سيرين غندور. لوحات بوتيرو تكاد تحكي وتقصّ، بينما لوحات غندور تُقدّم البدانة على أنها حقيقة الجسد، إنها كلامه وهو مرتاح فيها، بل ويكاد يكون ممشوقاً فيها. ملونتها لذلك غير ملونة بوتيرو، إنّنا أمام نوع من تعبيرية أو واقعية جديدة تبدو فيها المسافات وكأنها آتية من واقع آخر، والألوان التي فيها توحي بقدر من التعبير، قدر من التفكير، من الواقع والحقيقة نفسيهما.
* شاعر وروائي من لبنان