استمع إلى الملخص
- يجب على الشعب السوري التركيز على البناء والتفكير العقلاني، مع تعزيز السلم الأهلي والتعاون لإعادة بناء سوريا حرة ومستقلة بعيدًا عن التدخلات الخارجية والانقسامات الطائفية.
- تعبر الشعوب العربية عن فرحتها بتحرر سوريا وتدعمها لتحقيق حلمها في الحرية والاستقلال، مما يتطلب التخطيط الواعي لبناء دولة النهوض والسلام.
يرفّ الحمام في سماء سورية بعد خمسين عاماً من تكسير الأجنحة وسدّ الحناجر، ليهدل بـ الحرية وحلم السلام. يتحرّك الهواء حرّاً في شوارع سورية بعد أن سُجن في أقبية الظلام وغُيّبَ في غياهب الظلم لأكثر من خمسين عاماً. تُسفر الشمس ضاحكةً على جبين سورية بعد أن سُجنت وسُحلت وانتُهكت وقطع ضوؤها عن الأحياء وجُمّدت حرارتها في ثلاجّات الموت لخمسين عاماً.
تنفض الأرغفة عن طحينها وسنابلها وأفرانها السوس والعثّ والجدري والقمل والبارود الذي كان يجعلها لخمسين عاماً طعاماً غير صالحٍ لبني آدم وحوّاء. يجري الماء في روح سورية من جديد بعد أن جُفّفت منابعه واحتُكرت مصابّه وصُوِّب الرصاص على لونه وطعمه ورائحته خمسة عقود من الزمان، بنهاراتها الظمأى ولياليها اليابسة وسنواتها الضاريات العجاف.
كان النظام الفاشي، نظام البعث العبثي القاتل، قد قطعَ عن الشعب السوري كلّ أسباب الحياة من لقمة العيش الكريمة إلى الماء والهواء والشمس والأحلام وبوارق الأمل، ناهيك عن وحشيّته الممتدّة واللامتناهية لملاحقة وقتل وحرق كلّ قيمة من قيم مكارم الأخلاق، وكسر وذبح كلّ براعم وصبّار الأبجدية، وسجن وتشريد واعتقال وتعذيب كل كلمة شريفة وشفيفة من كلمات اللغة. لذلك كان معظم مثقّفي سورية الحقيقيّين إما خارج الوطن أو غرباء نفيه، أو مفقودين داخله.
حمام يرفّ في سماء سورية بعد خمسين عاماً من تكسير الأجنحة
على أنّه وإن كنا والعالَم أجمع على علم لا يَخفى إلّا على المتواطئين والجبناء بشرور النظام وقسوته ودمويّته على الشعب السوري وعلى جواره العربي، إلّا أنه ليس لإنسان أنّى بلغت به قتامة وعبثية وكوابيسية الخيال أن يخال أو يتخيّل واقع البشاعات والوحشية، التي يرتقي عنها الحيوانات، لما أظهرته الكاميرات من شهادات ومشاهد حيّة جنونيّة عن حال سجون النظام، في شكل من أفظع أشكال قبور الأحياء، وما كان يرتكب فيها من جرائم يجتمع فيها أقذر ما عرفته تواريخ السجون في العالم من جرائم الإهانة والانتهاك والتعذيب والذبح.
ولا إخال التعبير الرائج، "مسالخ النظام"، إلّا تعبيراً مخفّفاً لما شهدناه هذا الأسبوع من محارق النظام الفاشي الهتلري الهولاكي البعثي العبثي وأفرانه الغازية، حيث لا توجد في لغات العالَم كلمة تصف تلك السجون وما كان يجري فيها من جرائم.
لكلّ ذلك الطغيان الذي عاشت سورية طاعونه لعقود، تليق بسورية الحرية ويليق بشعبها أن يحلم باستعادة عافيته وكرامته الشخصية الوطنية معاً. يحقُّ لناس سورية إن ينعموا بالحرّية بعد أن كانوا يعيشون الرعب في عذاب ما بعده عذاب لعشرات السنين.
يحقّ للحرّية نفسها أن تنتعش وتنتشي بعد أن عاشت أقسى أشكال الاضطهاد والعداء ضدّ حروفها حرفاً حرفاً. يحقّ لأطفال سورية أن يفزّوا ليستعيدوا طفولة حُرِموا منها قبل أن يولدوا. يحقّ لنساء سورية أخيراً أن يلبسن ثياباً عاديّة على أرواح ممشوقة لأوّل مرّة، بعد أن لبسن ثياب الحداد على أجسادٍ يعلجها الحزن والخوف على عفافهن وعلى فقد غواليهن لعدة أجيال. خرجت سورية عن بِكرة أبيها من شامها لحلبها وحمصها وحماتها ودرعاها وديرها وفراتها وزبدانيها ولاذقيّتها وبحرها المتوسط والطويل الأبيض والأسود وقاسيونها وسهولها وقلاعها وقراها وضيعها وسهولها وبساتينها وجبالها لتحتفي بعودتها للحياة بعد موت محقق لخمسين عاماً.
رأس المال السوري هو السلم الأهلي والتفكير في الآتي
لذا، تثميناً وفرحاً لا حدود لهما بحرّية سورية، نجد من واجبنا خطّ بضع كلمات لا يجهلها الشعب السوري ولا يخونها الذكاء الاجتماعي والوطني لكافّة قواه المجتمعية، ولكنّها من باب المشاركة الوجدانية والفكرية:
أوّلاً، نتمنّى في هذه اللحظة على سورية ولسورية ألا تُفسَد فرحةُ تحرير أرضها من هولاكو وهتلر ونيرون وفرعون دفعة واحدة لشعب ظُلم وسُجن وشُرّد وسُفّه وأُحرق حيّاً، بأية محاولات رعناء لتصفية الحسابات، وأن تتفرّغ القوى لطرح الأسئلة البنّاءة والتفكير العقلاني التعميري باللحظة التالية، بدل تعكير صفو اللحظة بالحزازات والأحقاد والملاحقات القولية أو التصفوية، لأنّ رأس المال الآن هو السلم الأهلي والتفكير المشترك في الآتي.
ثانيا، مرّةً أُخرى وأُخرى، حقّاً، وإلى مالا نهاية نحمد للرحمن أنّه مدّ في آمالنا الضميرية والوجدانية المشتركة نحن وأجيال وأطياف عريضة من الأرواح الحرّة، لنعيش نشوة هذه اللحظة؛ لحظة نهاية العبث الوحشي لحزب البعث وسقوط طاغية عاش عداءً بشعاً للشعب السوري والعربي وقامر بدماء شعبٍ كامل ليبقى على عرش الخراب.
ومن المهمّ في سياق هذه النقطة أن يعلم الشعب السوري مدى حبّ الشعوب العربية بكلّ أطيافها له وفرحتها بتحرّره وتثمينها لأمجاده التاريخية وتوقّعاتها العالية لمستقبله الأجمل، كما لا بدّ للشعب السوري أن يعي، وهو لا شك يعي، أهمية ظهيره العربي القريب والبعيد، الذي لا يريد لسورية أن تقع في شرك التأسلم السياسي، ولا شركِ التشيع الطائفي المنغلق الإيراني، ولا بين سندان العدو الصهيوني وكيانه العسكري الاحتلالي التوسّعي ومطرقة قوى الهيمنة الأُخرى الإقليمية والعالمية معاً. فالحلم والمرجو والواجب هو سورية حرّة مستقلّة بكافة أطيافها الاجتماعية على قدم المساواة من الشراكة الوطنية للخروج من مرحلة النقاهة لمرحلة العمران.
فحمداً لله على هذه اللحظة من ردّ الاعتبار لتلك القيمة العمرانية العظيمة. إنها لقيمة حتمية نهاية الطغاة بأسوأ المآلات، وما يضاهيها من قيم الحرية وانعتاق الشعوب من أظلاف الظلم واستعادة إرادة الحياة.
لا تسع كلّ إنسانٍ طبيعي عاقلٍ راشد الفرحة بسقوط نظام قامَ على الحديد والنار والطائفية والعسكرة والحزبية الضيّقة والاستعداء الخارجي على أرض البلاد. كما ليس من فرحة تكفي الشعوب الحرّة بسقوط ديكتاتور قام على حراسة هذا النظام الفاشي بأبشع أشكال الظلم والقمع والقتل والسجن والتشريد للشعب بجانب أبشع أشكال العداء لمحيطه العربي.
أمّا القلق على هذه اللحظة المُستحقّة النادرة من لحظات الحرّية وسؤال المستقبل؛ مستقبل سورية حرّة أبية مستقلّة غير مجزّأة وغير مُختطفة من قوى الهيمنة، وكذلك مستقبل الوطن العربي، فهو التحدّي الذي لا تستطيع عظمة اللحظة وتاريخيّتها ورومانسيّتها أن تشغلنا عن استحقاق التفكير به، إن لم يكن الاستعداد له، بل إنّ زخم هذا الانعتاق العامّ من أظلاف الخوف يستدعي الاستلهام نحو تخطيط واعٍ للعمران والاستقرار وإقامة دولة النهوض والسلام.
لكلّ ما تقدّم ولما هو آتٍ، أتقدّم من سورية وشعبها العظيم، باسم شعراء الأرض وأطفالها وأحيائها الأحرار جميعاً، بأجمل التهاني على هذه اللحظة العظيمة التي تجلّى فيها الشعب، وهرب الباطل: إنَّ الباطل كان زهوقاً.
* شاعرة وكاتبة وأكاديمية من السعودية