صدر عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" ضمن "سلسلة "أطروحات الدكتوراه" كتاب "المعرفة والسلطة في التراث الإسلامي" للكاتب والباحث اللبناني سعيد علي نجدي.
يضيء المؤلِّف مسألة العلاقة بين المعرفة والسلطة في التاريخ الإسلامي، التي تستبطن كثيراً من المدارس والاتجاهات الفكرية، مختاراً من بينها للدراسة فكر الفرقة الإسماعيلية، التي تندرج تحت الجناح الشيعي، وجاءت تسميتها نسبةً إلى إسماعيل بن جعفر الصادق، الإمام السادس لدى الشيعة، ولا يزال لديها أتباع كثيرون في سورية واليمن، إضافة إلى الهند وإيران وغيرهما.
يتناول الفصل الأول انتفاضة الحركات العَلَوية في الشق الحسني، وانتفاضة الإسماعيلية في الشق الحسيني بوصفها أول حركة ثورية بعد ثورة زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، لكن الفرق بينهما هو أن الزيدية، رغم نجاحها فكريًّا في إنشاء مقولات كلامية متأثرة بالاعتزال، لم تنجح سياسيًّا في بلورة دول واضحة الاتجاه. أما الإسماعيلية، فنجحت فكريًّا وسياسيًّا، من خلال إنشاء الإمبراطورية الفاطمية، وكانت أولى الفرق المنتسبة إلى العَلَوية تنشئ دولة مركزية ضخمة.
انطلاق سياسة انفتاح الحاكم، أو تشدده، من الواقع، ومن معايير سياسية واقتصادية
أما الفصل الثاني، فيتعرض لصراع الدعوة الإسماعيلية مع العائلة العباسية المعادية، ولصراعها الداخلي، أولًا مع الفخذ العلوي الذي يمثله أولاد الحسن بن علي - أي بين الحُسينية والحَسَنية - على امتلاك مفاتيح القوة المتمثلة في "الإمامة"، وثانيًا داخل الحسينية نفسها، وهي أشكال من الصراع رسمت لدى الإسماعيلية معالم فكرية ومذهبية عدة، ومكّنتها أكثر من غيرها من إنشاء دول، مستفيدةً من أخطاء السابقين ومعيدة قولبة موروثاتهم المتراكمة لمصلحتها، ومستخدمةً نصوص كبار الفلاسفة (أمثال إخوان الصفا، والرازي، والسجستاني، والكرماني)، كما منحت علماءها سلطة تأويل باطن الشريعة مع الإبقاء على الإمام هدفًا وغاية في رسم أي عمل وحياكته، لأنه في رأيها المركز الذي يشرق على الكون بنوره.
يشرح الفصل الثالث استراتيجية عمل الإسماعيلية على عدة أبنية، ما جعلها صاحبة مشروع. فعلى المستوى السوسيولوجي، بنَت علاقة بين الأبنية الفوقية (عالم الرموز والمعاني) والتحتية (مؤسسات الحكم). وعلى مستوى السلطة، عملت على تهيئة الظروف لظهورها عبر: الستر (الانكفاء والتحضير) والكشف (ممارسة الحكم). وعلى مستوى الدعوة، قامت بجمع الصدقات دعامة أساسية لمشروعها، وتهيئة المناخات الفكرية للتأليب على السلطات المحلية، مستغلةً تناقضات المجتمعات، ومستخدمةً مفردات ذات دلالة مشحونة بالعواطف (مثل العدل، والخير، والتحرر، والمساواة)، وهي جميعًا دعامات ساعدت في ولادة مشروعها وإنضاجه تمهيدًا للكشف عنه.
ويوصّف الفصل الرابع سوسيولوجيًّا كيفية توظيف الفقه الإسماعيلي سياسيًّا أقانيم روحانية لتغليف حقل السلطة بغطاء سميك من القداسة لجعله فوق وعي الناس، وذا جوهر مقدس، وخصوصًا بالنسبة إلى الإمام، فهو ممثلُ عالمِ الجوهر، الذي ينكمش أمامه وعي الإنسان ويستسلم وينقاد إلى الاتباع المطلق، لأن الموجودات كلها لدى الإسماعيلية متمثلة في الإمام؛ بدءًا بالعقل الكلي، ونزولًا إلى الفلك الأعلى، وانتهاءً بعالم الدين والشريعة.
ويبيّن الفصل الخامس قيام الإمامة لدى الإسماعيلية على حبكة الوعد بالنعيم والتطهر الروحي؛ من خلال اتباع الإمام واعتباره مفتاح الانتقال إلى عالم الروح النقي، وهذا البناء الخيالي يوفر رأس المال الرمزي لمدّ بنى السلطة الإسماعيلية المستأنفة على الدوام، وهي اليوم ممثلة بشخص الآغا خان كريم شاه الحسيني، الذي تميل معه جماعته كيفما مال خوفًا على مصيرها، بغض النظر عن تحولات ظرفية في "ظاهر" الجماعة تفرضها قرارات للسلطة التي يعيشون في كنفها، إلا أن "الباطن" هو الثابت الوحيد لديهم، فالإمام هو الينبوع الأول وعدم اتباعه يعني تقمّص الروح؛ أي لبسها قميص جسد آخر حتى تتطهر، لتتمكن من العودة إلى عالم الروح.
كما يشرح الفصل السادس اهتمام الإسماعيليين بموضوع الإلهيات، وإسنادهم الصفات والأسماء إلى "العقل الكلي" الذي يمثله الإمام في الباطن، وتضخيم كينونة الإمامة الذي يوفر الديمومة السياسية على صعيد الاجتماع، وإبقاء الإمامة من المقدسات التي توفر انضباطًا واندماجًا وتجانسًا هوياتيًّا لدى الأعضاء وارتباطًا بالإمام الحاضر.
يضيء الفصل السابع تأويلات الإسماعيلية للنصوص، والشقة البعيدة التي قطعتها، متسائلًا عن سبب ذلك، ولا سيما إن كان بسبب أن دعوتها كانت ضعيفة بإسماعيل وابنه محمد؛ لأن الإمامة ثابتة - بحسب زعمهم - على محمد بن إسماعيل، لقول النبي محمد إن "اسمه اسمي واسم أبيه كاسم أبي"، في مقارنة بين إسماعيل بن إبراهيم ومحمد بن إسماعيل، وأن محمدًا طلب اليمن دارَ هجرة كما فعل جدّه النبي محمد بإقامة دار هجرة في يثرب؛ ومن أجل ذلك، حشدت تأويلات كثيرة متمثلة في إشارات جرى تجنيدها لنصرة مذهبها بسبب ضعف دعواها، فجاءت بفلسفة متأثرة بفيثاغورس، كما هو ماثل بوضوح في رسائل إخوان الصفاء، التي ينسبها الإسماعيليون إلى الإمام الثاني في دور الستر أحمد بن إسماعيل، وفقًا لمصطفى غالب وعارف تامر، أما أبو حيان التوحيدي والقفطي فينسبانها إلى أبي سليمان البستي "المقدسي"، وعلي بن هارون الزنجاني، ومحمد بن أحمد النهرجوري، والعوفي أيضًا، وربما لا تكون كذلك. ويوحي التأويل الإسماعيلي بنزعة عقلية، وهو يذهب صوب غاية عرفانية؛ أي استخدام العقل كـ"ظاهر" من أجل المعنى العرفاني "الباطن".
يذكر الفصل الثامن الفلسفة العددية الهرمية التي تأتي لمطابقة الدين مع الفلسفة من خلال موروثات الإسماعيليين، ولتكون الممثولات كلها متوجهة صوب عقيدتهم، من أجل مطابقة حدود الدعوة وتسلسلها انتهاءً بالواحد (الإمام) في مرحلة الستر. ومن هنا، يجب الاهتداء إلى العدد الذي تكون صورته في النفوس مطابقة لصور الموجودات في الهيولى، وبمعرفته يتدرج المرتاض إلى سائر الرياضيات والطبيعيات، والعلم به هو جذر العلوم وعنصر الحكمة وأسطقس المعاني، ومن دونه لن نفهم العقائد الإسماعيلية.
يتوصل الفصل التاسع إلى استنتاجات حول السلطة، أهمها انطلاق سياسة انفتاح الحاكم، أو تشدده، من الواقع، ومن معايير سياسية واقتصادية، وهذا ينطبق على الخلفاء الفاطميين الذين انطلقوا من مقتضيات الواقع في مرحلة القوة والتوسع.
أما الفصل العاشر، فيتساءل بعد عرضٍ التحولات السابقة عن إمكان العودة إلى الحديث عن المسكوت عنه في الدعوة الإسماعيلية. ويعتبر هذا الفصل أن التقية التي كانت في مراحل الستر لم يكن كل العوام على معرفة دقيقة بها وبأقانيمها؛ فالباطن بالنسبة إلى هذه الجماعة حقيقة ثابتة لكنّ الكشف عنها من خلال التأويل مهمّة الإمام، أما الظاهر فهو مسعف يستعان به حتى لا تبدو الإسماعيلية جماعةً متقوقعةً على نفسها.