استمع إلى الملخص
- يروي النص قصة "سعيد الريفولي"، الذي يعاني من صدمة نفسية بعد ترحيله من بلجيكا إلى المغرب، مما أفقده القدرة على الكلام، وتبدأ والدته رحلة علاج طويلة دون جدوى.
- يتحدث سعيد في لحظة نادرة أثناء مداهمة الشرطة، مما يبعث الأمل في والدته، لكنه يهرب مجددًا بحثًا عن الحرية والجدوى.
"قد يكون الموت حالة مختلفة تماماً عن النوم. ظلماتُ يقظةٍ تمتدّ إلى ما لا نهاية له، كهذه التي أراها خلف جفنيَّ المطبقين. نعم، لمَ لا يكون الموت بقاءً أزلياً في حالة يقظة معتمة؟"
هاروكي موراكامي
غريب كم يبدو النوم كرحم. مَن وصَمَ الظلمات بالوحشة والرهبة؟ هذه الظلمة الشاسعة التي تحيط بنا عندما ننام لها هالة علاجية مبهمة، ولا ندري ماذا كنّا فاعلين بكلّ هذا البقاء لولا هذا الوقت المستقطع من الليل.
توالت دقائق الإدراك الأُولى لتُعيد إلى وعيه سيناريوهات البارحة، فتشنّجت أطرافه من ألم البارحة، وانكمشت وجنتاه في ألم ندوب البارحة، واستعادت أذناه صرخات البارحة. وتمنّى للحظة لو يشنق هذه "البارحة" ويعلَّق هو هناك في غياهب اللاوعي. هذا المستيقظ لتوّه، ألا يستحقّ استمرار هذا الشعور باللاوجود؟
يجري "سعيد الرِّيفولي" وقد طارت فردة حذائه خلف ظهره. تحت شمس أغسطس الحارقة، يجري سعيد بكلّ ما أوتي من هروب. ينكمش جفناه في محاولة استبصار الطريق أمامه، ويجري. بعد فرار ساعات بدت كدهر، خارت قواه فارتمى بجسمه تحت أوّل جسر. تكوّر على نفسه في وضع الجنين جاذباً ركبتيه المرتعشتين إلى أعلى صدره وحاشراً رأسه وسطهما. أراحه هذا الوضع جدّاً، فعقد عزمه أن يبقى في هذا الحال إلى أن يغمض جفنه.
وثب طفلٌ فجأةً في محاولة إعادة كُرة تدحرجت ناحية الجسر، إلّا أنّه تراجع بفزع بعد أن أرعبه منظر تلك الكتلة البشرية الغريبة. بدا له سعيد في تكوّره واتساخه وكأنّ بركة وحل انكبّت فوق رأسه فطمست سحنته الحقيقية. وهو في الواقع يشبه إلى حدّ كبير أولئك الغرباء الذين تُحذّره أمُّه من قبول قطعة حلوى منهم، لأنّ الأمر قد يكون دائماً محاولة استدراج لفعل شنيع، لكن أين الحلوى؟ وأين الرجُل؟
سرعان ما تبدّدت مخاوف الفتى بعد أن لاحظ أنّ الرجُل بدوره يتراجع للوراء رهبةً منه. وأدرك لوهلة أنّ المذعور ليس هو وإنّما هذا الرجل الكبير المتّسخ. تساءل في غرابة: ما الذي قد يجعل رجُلاً كبيراً يهاب الأطفال؟
لحقت مجموعة من الصبية بالفتى بعد أن ملّوا انتظار عودته بالكرة، وتعرّف على سعيد أحدُ الفتية في المجموعة فصرخ في فزع به نشوة: "سعيد الريفولي!"، فشرع الصبية يتغنّون في هتافات جماعية: "ساعيد الريفولي... ساعيد الريفولي... سا... "، وولّى سعيد هارباً.
يُشاع في المدينة أنّ سبب جنونه راجعٌ إلى ستّة أعوام مضت، حين تمّت إعادته (refouler) إلى المغرب بعد هجرة قاربت سبعة عشر عاماً في بلجيكا.
في أحد صباحات الغربة الباردة كجفون المحيط، كان سعيد في طريقه لتسلُّم ما أرسلته أمُّه مع إدريس - صديق عمره - وقد أحسّ بحنين غريب للوطن. كان يجد في تسلُّم الأشياء من الوطن شيئاً من الرومانسية والحزن في آن واحد، وكأنّه عناق لحظي، شبق مبهم، معاشرة روحية لوطن لفظه. جزء منه لا يزال يحنّ إلى تراب وطنه وأنامل أمّه التي تصنع الحب والمنازل وألذّ دوائر الكعك بالسمسم. فجأة ومن دون سابق إنذار، داهمت طريقه سيارة شرطة وقد ترجّل منها ستّة رجال مدجّجين بأسلحة وكأنّه على وشك تفجير قنبلة.
في رمشة عين، جُمع سعيد وأُلقي في سيارة الشرطة. تمّ بعدها استجوابه وتجويعه مدّة ثلاثة أشهر، علم بعدها أنّ إدريس قد ضاق ذرعاً بكلّ ما ترسله أمّ سعيد فوشى به للسلطات. أُعيد بعدها إلى المغرب مع منع دخوله التراب الأوروبي إلى الأبد.
لم ينبس سعيد بعد الحادثة ببنت شفة. ظنّت أمُّه في بادئ الأمر أنّه من تأثير الصدمة، فجالت به في عيادات الأمراض النفسية، ثم خلصت بعد مرور سنتَين إلى أنّه حتماً نوع من أنواع السحر أو المس، فبدأت رحلتها معه بين الأضرحة ومنازل الرقاة، وبعد أن كفرت بالطبّ قصدت السحرة والعرّافين عساها تجد عندهم ما يعيد لابنها شيئا من الكلمات.
لم يُفلح شيء من محاولات أمّ سعيد، فقد غادرته اللغة إلى الأبد.
وظلّ سعيد ساكناً، ينتظر أن يوقظه شخص من هول هذا الكابوس المفزع. ينتظر أن يسمع صوت ارتطام أو عويلاً أو حتى طلقة رصاصة توقظه. رفض أن يستسلم لحقيقة العودة.
سيستيقظ سعيد حتماً، فيشعر بلذّة الاستيقاظ ويشكر الله كثيراً على هذه النعمة، حتى إنّ أوّل شيء سيفعله بعد الاستيقاظ هو الالتزام بالصلاة خمسة أوقات يومياً امتناناً وعرفاناً.
في إحدى ظهيرات يونيو التي تُنذر بحرِّ صيف ملتهب، داهمت الشرطة بيت أحد الرقاة بينما كانت أمّ سعيد وابنها ينتظران دورهما للدخول. أثناء المداهمة، رفع سعيد عينَيه ونطق للمرّة الأُولى: "لم يحدث الأمر بعد... لم يحدث الأمر بعد. أسرِع قبل أن يلقوا عليك القبض".
وسط فرار الزوّار وولولة النساء وأصوات تردُّد لاسلكيِّ الشرطة، ارتخت أسارير أمّ سعيد فرحاً وارتوت عيناها أخيراً بدموع البهجة، وحطّت بكلّ ثقلها على الأريكة وهي تتحامل على نفسها لإطلاق زغاريد الاحتفال، لكنّها ما كادت ترفع سبّابتها حتى ولّى سعيد هارباً بين الأزقة. كانت تلك الجملة أوّل وآخر ما سمعت أمُّ سعيد من ابنها منذ الحادثة.
بدأ سعيد رحلة الجري منذ ذلك اليوم. يجري هرباً من أيّ شخص بزيّ مدني، يهرب بعيداً. يهرب سعيد سعيداً كطفلٍ يلعب الغمّيضة، وقد وجد أخيراً نوعا من أنواع الجدوى: الهروب.
* كاتبة من المغرب