استمع إلى الملخص
- الشخصيات والهوية السردية: في "أسفار مدينة الطين"، تتسم الشخصيات مثل "سعدون" ببعد أسطوري وهوية دينية فريدة. السنعوسي يركز على استقلالية الشخصيات في التعبير عن ذاتها، مما يجعل الكتابة عملية غير متوقعة.
- استخدام الحيوانات والهوية الجامعة: يستخدم السنعوسي الحيوانات كمعادل نفسي بشري، ويبرز الهوية الجامعة في الكويت خلال الأزمات. يتناول التحديات الرقابية في موضوعات حساسة، مشدداً على الدقة التاريخية.
يؤمن الروائي الكويتي سعود السنعوسي (1981) بالتاريخ في الرواية بوصفه خلفيةً لجريان الحدث من دون أن تتورّط الشخصيات بشكل مباشر فيه، وحتى لا يؤدلج العمل على أيّ نحو. وهذا الإيمان ينتمي إلى قراءات وخبرات نهل منها، وربّما أبرزها ما أطّره الروائي والكاتب المسرحي الإسكتلندي والتر سكوت (1771 - 1832)، الذي رأى حدود التاريخ في العمل الأدبي كما ينبغي أن تكون بعيداً عن حقل التأريخ.
لعلّ استحضار هذا مردُّه إلى أنّ ندوة "حديث الألِف" الشهرية، التي استضافتها "مكتبة ألِف" التابعة لمجموعة "فضاءات ميديا"، مساء أوّل أمس الأربعاء، أعطت القسط الأوفر للثلاثية الروائية التي صدرت للسنعوسي خلال العامين الماضي والجاري، وهي "سفر العباءة" و"سفر التبة" و"سفر العنفوز"، والتي تدور على مدار أكثر من ألف صفحة، منذ مطلع القرن العشرين حتى 1990.
حاورَت الضيف وأدارت النقاش الكاتبة هالة كوثراني، بينما استمع جمهور اللقاء إلى ثلاث قراءات من روايات مختلفة قدّمتها الكاتبة مايا الحاج، ودارت فصول الحوار والمناقشات في الغالب حول الهوية السردية التي لجأ إليها، خصوصاً في الثلاثية.
وممّا سيق في الندوة الحديث عن الأسطورة التي حامت وتغلغلت في مدينة الطين، حيث العنوان الكبير للثلاثية هو "أسفار مدينة الطين"، ثم يتفرّع منها كلّ سفر يخصّ مرحلة تاريخية، ولا يختتم بها حكماً، بل تتقاطع الأزمان، وتترك آثارها على أجيال مواكبة لأجيال جديدة ترث وعيها ومصيرها.
يصبح للشخصية الروائية سطوةٌ حتى أنّها ترفض ما تضعه في فمها من كلام
الشخصيات الأسطورية في الثلاثية يتقدّمها "سعدون" الذي وُلد بلعنة السؤال، واكتسى بُعده الأسطوري وهويته الدينية من خلال حبّه لله على طريقته، وليس على طريقة العرف السائد.
قال السنعوسي إنّه كان مع الشخصيات الروائية التي خطّط لمصيرها منذ سنوات، غير أنّ المتعة في الكتابة، كما يواصل، هي التي لا تعرف بالضبط كيف للأحداث أن تجري، لا بل كيف لمصير الشخصية أن يقع. وعليه فهو يرى أنّ الكتابة ليست تفريغاً ذهنياً للحصول على شخصية بمواصفات ما، بل على الكاتب أن يتوقّع مفاجأة هذا أو هذا إبان السرد.
في اللغة وهي أساس وجود الإنسان، يقول إنّ الشخصية الروائية يصبح لها من السطوة حتى أنّها ترفض ما تضعه في فمها من كلام. هو يقول هذا عن تجربته، ولا نعرف إلى أيّ مدىً يمكن أن نسحب هذا على كلّ ما يُنتج من سرد قد يجعل الكاتب يضع ما يشاء من كلام، فيجابَه بقارئ يرى أنّ الشخصيات على سبيل المثال تبدو كأنّها جميعاً مثقّفة، إلّا أنّ السنعوسي يفصل بالقول إنّ الروائي حين تعجبه عبارة فليكتبها في تغريدة، وليترك الشخصية تُعبّر عن ذاتها باستقلالية.
وعن استعانته الواضحة بالحيوانات في مسيرته الروائية منذ 2010، قال إنّه يستثمرها لكي تكون معادلاً للتعبير النفسي البشري، أي للوصول إلى القول البشري من خلال زاوية كائن حي آخر. حدث هذا في الكثير من أعماله، منها "ساق البامبو"، حيث ترك هوزيه ميندوزا الكويت حينما ماتت السلحفاة لأنّها آخر من بقي لديه.
صدرت لسعود السنعوسي روايات: "سجين المرايا" (2010)، و"ساق البامبو" (2012)، التي فازت بـ"الجائزة العالمية للرواية العربية" (البوكر) عام 2013، و"فئران أمّي حصة" (2015)، و"حمام الدار" (2017)، و"ناقة صالحة" (2019)، وثلاثية "أسفار مدينة الطين": "سفر العباءة" (2023) و"سفر التبة" (2023) و"سفر العنفوز" (2024).
وإذ تظهر في رواياته هويات عديدة طائفية وعرقية ومناطقية، قال ردّاً على سؤال "هل الهويات الصغيرة تنتصر للهوية الجامعة؟"، إنّه يؤمن بأنّ الهوية الجامعة في بلده الكويت (يصفها بأنها هبة البحر) لا تكون في أيام الرخاء، بل يجب أن يقع ابتلاء ما حتى تتوحّد الهويات وتتجاوز فروقاتها، ومن ذلك الاحتلال العراقي للكويت، وقبلها عام 1920 حين وقعت معركة الجهراء وبُني السور لحماية القصر الأحمر، إذ تولّى السكّان من كافة تلاوينهم البناء من دون أن يتكلّف قصر الإمارة روبية واحدة (العملة السائدة وقتذاك في الخليج العربي).
متعة الكتابة هي التي لا تعرف بالضبط كيف للأحداث أن تجري
ودائماً يلحّ سؤال التاريخ، ولكن هذه المرّة ليس عن وجاهة استعماله فنّياً، بل من زاوية الوسواس الرقابي، فهو تطرّق مثلاً إلى وجود دُور البغاء في مطلع القرن العشرين، وذكر أنّ تناوله لهذه الظاهرة لم يكن ربما ليتجرّأ فيه، لولا أنّ المؤرّخ عبد الله الحاتم (1916 - 1995) قد تناوله في كتاب تاريخ.
ومضى يقول إنّه عرض المخطوطة على أكثر من شخص من مواليد عقد الأربعينيات، فأجمعوا على أنّ ذكر البغاء في الجزءين الأول والثاني من الثلاثية مسيء، فما كان منه إلّا أن استثمر هذا التحفّظ في الجزء الثالث من الثلاثية.
وبقي البحث عن الدقّة التاريخية ليس فقط مرهوناً بالكتب التي اطّلع عليها، بل التدقيق في الحساسيات والمعلومات التفصيلية المغفلة والثانوية في أحيان كثيرة. فهو مثلاً يذكر البلابل في موسم صيد الطيور، وهذه الطيور غير معروفة في البلاد، لولا أن أخبره والده أنّها جاءت بعد جفاف الأهوار في الحرب العراقية الإيرانية، كما أنّه استحضر شجر الصفصاف، وعليه تاريخياً لا يجوز أن يقع ذلك إلّا بوجود المكوّن الفلسطيني منذ منتصف القرن الماضي، فهم الذين جلبوا وزرعوا هذه الشجرة.