سعادة عربان.. المرأة التي سُلب صوتُها مرّتَين

10 ديسمبر 2024
سعادة عربان خلال مؤتمر صحافي بالجزائر العاصمة، 21 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- كوستانزو بريفي في "عودة الكهنوت" يناقش تأثير الرأسمالية الحديثة في خلق طبقة ثقافية جديدة تروج لأفكارها، مما يغير دور المثقفين ويصف الثقافة بأنها شمولية مرنة.
- رشيد بوجدرة في "زناة التاريخ" ينتقد استغلال الاستعمار الجديد للمثقفين العرب، مشيرًا إلى انجذابهم للشعارات الإمبريالية، مما يساهم في إفقار الشعوب لصالح الأثرياء.
- كمال داود يواجه انتقادات لاستغلاله قصة امرأة جزائرية في روايته "حوريات" دون موافقتها، مما يثير جدلاً حول استغلال الأدب لحيوات البشر ومعاناتهم.

في عمله الصادر عام 1999 تحت عنوان "عودة الكهنوت: مسألة المثقّفين اليوم"، يحاجج الفيلسوف الإيطالي كوستانزو بريفي بأنّ الرأسمالية العابرة للحدود الوطنية الحديثة زوّدت نفسها بما أطلق عليه اسم إكليروس جديد لا يتكوّن من رجال دين بالمعنى التقليدي للكلمة، وإنّما من طبقة ثقافية قوامها الأساسي الكتّاب والصحافيون الذين باتوا المبشّرين بقوّتها المطلقة وقدراتها اللامتناهية. وقد وصف بريفي هذه الثقافة بأنّها نوع جديد من الشمولية المرنة التي لم تعُد تقتصر على التلاعب بالرأي العام القديم، بل تميل إلى بنائه بشكل مصطنع منذ البداية، وهكذا بدأ سؤال المثقّفين القديم يأخذ أبعاداً جديدة وغير متوقّعة.

بعدها بأعوام، صدر للروائي الجزائري البارز رشيد بوجدرة كتاب جدلي بعنوان "زناة التاريخ" (2018)، خاض فيه في ديناميكيات عمل هذا الكهنوت الجديد داخل الحياة الثقافية العربية، والجزائرية تحديداً، وفيه يقول: "إنّ الاستعمار الجديد حاول ولا يزال يحاول استغلال البلدان التي كان يهيمن عليها، ويستعمل في محاولاته هذه الفئة القليلة من المثقّفين والمُخبرين المحلّيين الذين تبهرهم الشعارات الإمبريالية المغرضة والدعاية الليبرالية الاقتصادية التي أفقرت حتى الشعوب الغربية نفسها لفائدة الأثرياء"، لتزوّدنا بعدها بسنوات قليلة فقط وسائل الإعلام العالمية بمثال حي، يصعب العثور على ما هو أشدّ منه بلاغة لوصف تحوّلات دور المثقّف في عصرنا على النحو الذي نظّر له مفكران ألمعيّان من شمال وجنوب المتوسّط هما بريفي وبوجدرة. 

فقد طالعتنا الصحف العالمية، بخبر فوز كاتب جزائري بجائزة فرنسية مرموقة عن رواية تحت عنوان "حوريات" (الترجمة الأدق "حور العين") عن دار "غاليمار" الفرنسية العريقة. و"المثير" في الكتاب أنّه يتناول فترة "العشرية السوداء" في الجزائر، وهي الثيمة التي قاربها جلّ الكتّاب الجزائريّين، من جميع الأجيال وباللغتين العربية والفرنسية، باستفاضة كبيرة وبتدفّق شديد. كيف لا والأمر يتعلّق بجرح غائر في تاريخ الجزائر ارتُكبت فيه فظائع مروّعة باسم الدين؟

كاتبٌ "يعطي صوتاً للمرأة" اعتدى بالسلاح على امرأة

إلّا أنّ الغريب هنا هو أنّ كاتب الرواية، كمال داود، كان هو نفسه إسلامياً في تلك السنوات، كما اعترف بنفسه، وكان ليكون من المثير فعلاً للاهتمام لو أنّه خاض في تعقيدات النفس البشرية في روايته، ليستوحي من سيرته الشخصية، ويحملنا بصدق في جولة إنسانية عميقة إلى دواخله فيعرّي فيها تحوّلات شاب إسلامي كان إماماً في ثانويته خلال المأساة الوطنية، ليغدو بعدها صحافياً "متنوّرا"، وكان ذلك ليُفرز لنا ملحمة مؤثّرة تشبه رائعة الروائي عاموس أوز "قصّة عن الحب والظلمات"، فيخوض في تفاصيل حياته وتقلّباتها ويتحرّر بإرادته من عبء تاريخه الشخصي بواسطة فعل الكتابة.

ولكن داود اختار، بدلاً من مواجهة ذاته، الطريق الأيسر، وهو الطريق الذي أصبح الكتّاب الجزائريون (من جنس الذكور) يعتمدونه مؤخّراً في سردياتهم باستسهال أيديولوجي فجّ، وهو الاتكاء على صوت امرأة يافعة يحكون قصّتها الحزينة مع المتطرّفين ورجال الدين، ويصبحون هم السوبرمن الذين طال انتظارهم بدفاعهم عنها بروايات من ثلاثمئة صفحة ويزيد، ليصدّوا هكذا عنها كهنوت الدين، وليضربوا بذلك عصفورين بحجر: فمن جهة هي رواية تجنّبهم - من خلال اختيار الضمير المؤنّث - عناء الغوص في دواخلهم والنظر إلى وجوههم في المرآة، ومن جهة أُخرى هي نفسها الرواية التي ستُموضعهم في صفّ الكتاب المتفتّحين والمؤمنين بحقوق المرأة، فيسرقوا بذلك صوت المرأة السردي لصنع صورة تحرّرية لهم تناسب المحافل الثقافية الدولية، وذلك ضمن مساع تسلّقية بحتة لا علاقة لها بنموهم الوجداني. 

وهذا الكلام كان ليندرج ضمن التنظير النسوي الراديكالي، لو لم يكن الكاتب الفائز بـ"غونكور" عن روايةٍ "تُعطي صوتاً للمرأة"، قد صدر فعلاً في حقّه حُكم في قضية اعتداء على امرأة بسلاح أبيض، في تأكيد آخر على أنّنا حيال مادّة مثالية لحبكة درامية تناقش تناقضات النفس البشرية وتعقيداتها، ذلك أنّ الكاتب التنويري المدافع عن حقوق المرأة اعتدى على زوجته الأُولى بالسلاح الأبيض بعد تحرُّره من عباءة الإمام وتحوّله إلى كاتب عصري. 

الأدب عرضاً سادياً يستبيح حيوات البشر وينتهك كرامتهم

ولكن داود، وبدلاً من سرد حكايته الحزينة هذه، اختار سرد قصّة سعادة عربان، التي خرجت ذاهلةً أمام الإعلام، وعن طريق جهاز مساعد للنطق مثبّت على رقبتها، لتتكلّم، وهي المرأة والزوجة والأم، عن صدمتها من تعرية داود لها على الملأ وعرض حياتها الخاصّة وحميمياتها في روايته الأخيرة، لكن ليس من دون أن يزوّر الكثير من تفاصيل قصّتها على نحو مسيء. قصّة تقول سعادة إنّها أخفتها طيلة 25 سنة ولم ترض بالخوض فيها مع غير مُعالجتِها النفسية التي أفشت أسرار المهنة وشاركت تفاصيل جلساتها مع زوجها الروائي، ليبقى ما هو أبشع من هذا الفعل الغادر هو خروج أعضاء من الكهنوت الثقافي في الجزائر من كتّاب وروائيّين صنعوا مجداً ورقياً قائماً على سرقة أصوات النساء المقهورات في سردياتهم، ليدافعوا عن ذبح سعادة للمرّة الثانية باسم حرّية التخييل، بل والسخرية أيضاً من مساعي محاميتها الكبيرة، والوجه الأيقوني في الساحة الحقوقية الجزائرية، فاطمة بن براهم، في الترافع عن سعادة في قضية إنسانية كهذه، وهي التي تعهّدت باسترجاع كرامة موكّلتها التي سُلب صوتُها مرّتَين.

سعادة، امرأة حقيقية بلحم ودم شاهدتها الجزائر قبل أكثر من عشرين سنة وهي تُذبح مع أفراد عائلتها، طفلة على يد القتلة من تجّار الدين، ليبقى فيها نفَس بمعجزة إلهية بعد أن نُحرت وقُطعت أحبالها الصوتية، وتنشأ بعد نجاتها في بيت وزيرة الصحّة الجزائرية السابقة زهية منتوري التي تعهّدت بها بعد المذبحة، وتحوّلت سعادة بطلةً وطنية ومغاربية في رياضة الفروسية ثلاث مرات، وعُرف لاحقاً أن منتوري رفضت رفضاً قاطعاً أن تُحوَّل قصّة ابنتها بالتبنّي إلى عمل روائي، شأنها شأن أيّ أمّ ترفض المتاجرة بجراح أبنائها.

لكن بعد وفاة السياسية الجزائرية قبل سنتين (وهي التي سماها داود في روايته خديجة، ووصفها بالمرأة صاحبة السلطة والنفوذ)، سينكشف ظهر سعادة، وسيجد أخيراً عشّاق أدب الجوائز الفرنسية حياة سعادة مستباحة في كاتالوغ غاليمار، ليستمتعوا بذبحها للمرّة الثانية على صفحات "التخييل"، ويتحوّل الأدب في عصر النيوليبرالية المتغوّلة إلى عرض سادي يغدو فيه البشر سلعاً، تُستباح فيها حيواتهم وتُنتهك كرامتهم تحت تصفيق النقّاد الأدبيّين.

سعادة لم تمنح يوماً موافقتها على تحويل قصّتها الشخصية إلى عمل تخييلي حتى بطلب شخصي من الروائي الذي عرف قصّتها من خلال زوجته المعالجة النفسية. "سوف تحصلين على أموال وفيرة من بيع القصّة وتحويلها إلى فيلم، وسيخوّلك ذلك شراء شقّة في إسبانيا"، تُصرّح سعادة لوسائل الإعلام وهي التي ذُبحت من الوريد إلى الوريد في سنّ السادسة على يد الإسلامويّين والأوصياء على الدين، لتُذبح اليوم مرّةً ثانية على يد كهنوت الثقافة والأوصياء على الأدب والتخييل.

هكذا تحوّل الأدب، الذي كان يوماً صوت من لا صوت له، أداةً للتكسّب من أوجاع البشر، ومسوّغاً للاتجار بمعاناة الإنسان ووسيلةً لتزوير سرديات الشعوب والأمم، كما تنبّأ بذلك كوستانزو بريفي، حيث أصبحت حياة الناس المقدّسة بضاعة تُباع وتُشترى في هذا الزمن الكئيب، زمن المثقّفين العبيد، وكهنة ديانة السوق: زناة التاريخ.

 

* روائية جزائرية مقيمة في إيطاليا 

المساهمون