مع إعلانه، مؤخراً، أنه لن يوافق مستقبلاً على أيّ دعوة تلفزيونية أو إذاعية دون مقابل، فتح المخرج التونسي عبد الحميد بوشناق باباً لسجالات متعدّدة في الساحة الفنية، وضعت مجمل المشهدين الإعلامي والفني، وخصوصاً العلاقة بينهما، أمام أسئلة تبدو معظمها دون إجابات.
كان بوشناق ضيف أحد البرامج الإذاعية الأسبوع الماضي حين بدا غاضباً وهو يطرح مسألة استغلال الفنانين من مختلف القطاعات، معتبراً أن الأجور لا تتماشى مع ما يقدّمونه وأنهم يتعرّضون لابتزاز المستشهرين على حساب تصوّراتهم الإبداعية، ومن هنا عرّج على استغلالهم في المنابر الإعلامية وتأثيث مساحات زمنية بحضورهم دون أن ينتفعوا بذلك، بل إن الإعلاميين باتوا يعتبرون أن دعوة الفنانين منّة يقدّمونها لهم.
وجد هذا الرأي قبولاً حسناً عند فئة من المشتغلين بالمهن الفنية كما وجد بعض الانتقاد. يرى الفريق الأول أن جميع من يتداخلون بالصناعة الإعلامية من منشّطين وتقنيين، وحتى جمهور، يتلقّون مقابلاً للخدمات التي يُسدونها للمؤسسة الإعلامية، فيما بقي الضيف هو الوحيد المقصيّ من العائد المادّي في حين أن تمويل البرامج يكون في أحيان كثيرة بفضل شعبية الفنان الضيف، أو بفضل إنتاج عملي سينمائي أو موسيقي أو مسرحي جديد.
يؤكّد هذا السجال على نقائص في فهم العلاقات بين الفن والاقتصاد
في المقابل، يعيب البعض هذه النزعة المادية التي تظهر في خطاب شريحة من الفنانين، كما يؤكّد آخرون أن من المفترض أن تقوم عائدات الفنان على مداخيله من منتجه الفني في الأساس، ويمثّل الحضور في وسائل الإعلام مجرّد عنصر تكميلي هو أقرب للإشهار، وبالتالي فإن الفنان هو المنتفع بالخدمة وهو من عليه أن يدفع مقابلَ الحضور.
تبدو المسألة أقرب إلى حوار طرشان، ولا نجد إلا تصريحات متفرّفة لا تبلغ مرتبة الحوار، كما أن موضوع أجرة الفنانين عند الحضور الإعلامي لم يدخل بعض ضمن مقاربات أشمل تساهم فيها مؤسسات، مثل وزارة الثقافة أو النقابات والجمعيات الفنية، وكذلك الباحثون في الفن والاقتصاد وغير ذلك من الحقول المعرفية التي يمكنها أن تجعل هذا السجال (وغيره من السجالات التي نخترق الحياة الفنية) ذا معنى.
كثيراً ما تُقاس تجارب الفنانين مع وسائل الإعلام التونسية بتجارب أجنبية، وهو أمر فيه كثير من التجنّي، فمن المعلوم أن سوق الإعلام تظلّ صغيرة ولا تتوفّر في تونس مؤسّسات كبرى إلا تلك التي ترعاها الدولة، ولهذه مشاكلها المتعلقة بتضخّم مواردها البشرية وهو ما يرهقها مادّياً ويصعّب تحوّلها إلى مشاريع إعلامية نشيطة.
من وراء هذا السجال نقف على افتقار المشهد الإبداعي في تونس على فهم العلاقات بين الفن والاقتصاد، فدعوة بوشناق تقوم على قياس الواقع التونسي على المنطق الرأسمالي في أعلى درجاته، في حين أن البلاد لا تعيش هذا المنطق الرأسمالي في مواطنه الأصلية، أي الإنتاج الاقتصادي البحث. أما من منظور وسائل الإعلام، فإن الدفع للفنانين، وبغض النظر عن العبء المادي، يحمل حرجاً أخلاقياً؛ فإذا كان من المنطقي الدفع للفنانين النجوم، كيف سيكون الحال مع فنانين ما زالوا في بدايات طريقهم؟ وقتها، ستمنح الأضواء فقط لمن تحت الضوء.