سأظلُّ أسمع غناءَه: تحيّة إلى رفعت عطفة

24 يناير 2023
رفعت عطفة (1947 ــ 2023)
+ الخط -

كان لي، أوّل ما بدأتُ بممارسة الترجمة عن اللغة الإسبانية، جناحان أحلّق بهما وأطير، وأنا في دمشق، فوق عوالم أميركا اللاتينية وإسبانيا. هذان الجناحان هما صالح علماني ورفعت عطفة. كان يُخيّل إليّ آنذاك أن رفعت عطفة، خصوصاً، طيرٌ يحلّق فوق سورية وأرجاء العالم العربي، لكنّ غناءه يمتدّ وصولاً إلى إسبانيا والعالم الناطق باللغة الإسبانية.

كان رفعت (الذي رحل عن عالمنا أمس الاثنين عن 76 عاماً) يُترجم الكتب وكأنَّه يترجم النجوم. كان يحوِّل كلَّ كتابٍ يترجمه إلى أوركسترا من الكلمات. ترجماته كونشيرتو، وكلماته رقصٌ لغوي في الهواء. كانت كتبه، حتى تلك التي تبدو شاقّة وسوداء في لغتها الأم، الإسبانية، شلّالات من ضوء، في لغتها الثانية، العربية. هكذا تعلّمتُ منه أنّ الترجمة قلبٌ وصدر مفتوحان لاحتضان العالم كلّه. هكذا تعلّمت منه أنّ الترجمة، قبل كلّ شيء، حبُّ وارتباطٌ عضويٌّ بالجسد. الترجمة حُبّان: حبُّ للجسد، وحبٌّ للغة. 

كانت حياة رفعت عطفة، كمثل نصّه المترجم، تاريخاً آخر للترجمة. الكتب السبعون، تقريباً، التي ترجمها من اللغة الإسبانية إلى العربية منجزٌ حضاريّ للمترجمين الشباب. ما بقي لنا من حياةٍ نعيشها، لو قلنا إننا نعيش، لن تكون نفسها بعد فقدان مترجم "الدون كيخوته"، و"أضواء بوهيمية"، و"المخطوط القرمزي"، و"غرناطة بني نصر"، والكثير الكثير غيرها.

لطالما رأيته يواجه، برباطة جأش، خيبات الأمل المتكرّرة في الحياة السورية. تحيّاته الصباحية التي كان يرسلها، كلّ يوم، لقائمة الأسماء الموجودة في هاتفه الجوّال، على اختلافها وتنوّعها وتناقضاتها، تُبرز انفتاحاً كبيراً على الآخر، تُبرز صداقة عالية كمثل صداقة الهواء والعشب، الشمس والسماء. هذه هي الترجمة في العمق: انفتاحٌ على الآخر المختلف.

يقلُّ العالم من حولي ويصبح أكثر بشاعةً. يقلّ العالم من حولي ويصبح أكثر فراغاً.

تحيّة لك رفعت عطفة، صديقاً، مترجماً وأستاذاً.
 

* شاعر ومترجم سوري مقيم في إسبانيا

المساهمون