"زمن الغفلة" مُخيِّماً على الضمائر: دروز فلسطين في جيش الاحتلال

09 يناير 2024
من جنازة سفيان دغش المُجنّد في جيش الاحتلال الإسرائيلي
+ الخط -

أتمّت الحرب على غزّة شهرَها الثالث؛ وقتٌ من المُفترَض أن يكون كافياً وكاشفاً للكثير من المواقف والمُعطَيات. قِيل وسيقال الكثير عن التخاذُل العربي والازدواجية الغربيّة؛ لكنّ الأهمّ  اليوم هو إيقاف المحرقة وتدفيع "إسرائيل" جميع أثمانها. في المقابل، كشفت فداحةُ الخسائر التي طاولت آلة القتل الصهيونية، عن حجم الارتزاق في المؤسسة العسكرية الإسرائيلية؛ مقاتلون أجانب مأجورون، ومثلُهم آخرون من بَدو ودروز عرب الأرض المحتلّة عام 1948، سرعان ما يعودون في توابيت ملفوفة بعلم الصهيونية المقيت، بعد أن تلطّخت أيديهم بدماء أطفال غزّة. مشهدُ العار هذا، تُقام له المآتم بلا أدنى خجَل، ويهرع رجال دينٍ، لإلقاء العِظات فيها.

لكن كيف وصلنا إلى هذا المستوى حقّاً؟ فالتبنّي الكامل للأيديولوجية الصهيونية، والتفاخُر بالانتماء لأقذر مؤسّساتها (الجيش)، يحتاج إلى نظر في السياق التاريخي والسياسي لهذه الإفرازات، في وقتٍ يُعبّر به ناشطون من حول العالَم، وبكلّ شجاعة، عن تنديدهم بالإبادة ومناهضتهم للصهيونية، وجزءٌ كبيرٌ ومؤثّر منهم يهود يتبرّأون من المجازر الحاصلة في فلسطين.

لم نستيقظ، فجأةً، على عملية "طوفان الأقصى"، هناك مجرىً استعماري منذ نكبة عام 1948، أو حتى قبل ذلك، أخْذَاً بالاعتبار تاريخ الغزو الاستيطاني المديد. كذلك الأمر حين نرى، اليوم، مقطعاً يبثّه أحد التلفزيونات العِبرية، لشيخ درزي "ليكوديّ"، يُصلّي على قتلى من طائفته، تمكّنت منهم المقاومة في غزّة، ويظهر بجانبه شاعر بائس كسليمان دغش، ابن قرية المغار الدُّرزية، وهو يُؤبِّن حفيدَه المُجنَّد في جيش الاحتلال الإسرائيلي، ويتمنّى أن يكون مكان القتيل. هُنا، جديرٌ أن نتساءل: أيّ سياق دفع بهؤلاء ليكونوا على الطرف المُتصهيِن من التاريخ؟  

"الأقليّات" مصطلح تحبّه وتستعمله القوى الاستعمارية

يُذكر أن الحدث قد دفع بوزارة الثقافة الفلسطينية لإصدار بيان استنكار عبر حسابها على فيسبوك، داعية المؤسسات الثقافية أن تحذو حذوها وإلغاء "جائزة الاتّحاد العامّ للأدباء والكُتّاب العرب" التي مُنحت لدغش عام 2017 و"تكريمات" أخرى غير مستحقة -أدبياً في المقام الأول- من وزارة الثقافة الفلسطينية. ولئِن كان استنكار الوزارة في مكانه، حَرِيٌّ التفكير، أيضاً، بحال من "أقدَم" على هذا التكريم وغيره قبل أعوام قليلة فقط، حينها يبدو الخلل أعمق وأعمّ في المؤسسة الثقافية الفلسطينية الرسمية. فالناس لا تنام وتصحو لتُفاجَأ بأبنائها يخدمون في جيش الاحتلال، هذا ليس أمراً سرّياً، ومن المُفترض أن يكون لـ"المثقّفين" مواقف سبّاقة وحسّاسة و"مُنْشقّة" عن انتماءاتهم الضيّقة والأهليّة، إن تطلّب الأمر.

نعود لنتساءل: ما الذي دفع مُجتمعاً فلّاحياً، ويوصف بأنّه مُنغلق، وقليل العدد، مثل دروز فلسطين (قُدّر عددهم عام 1948 بـ14 ألفاً، وهم اليوم أكثر من 150 ألفاً)، أن يُؤثِر البُندقية الإسرائيلية على المحراث الفلسطيني؟ تساؤلٌ انطلق منه المُؤرّخ والباحث الفلسطيني البارز، ابن بلدة عسفيا الدُّرزية، قيس فرّو (1944 - 2019)، في كتابه "دروز في زمن الغفلة: من المحراث الفلسطيني إلى البندقية الإسرائليلة" ("مؤسسة الدراسات الفلسطينية"، 2019)، في محاولة منه لتقديم قراءة سوسيولوجية لهذا الواقع. 

قدّم الكتاب اجتهاداً أكاديميّاً رصيناً في موضوعه، من حيث اشتباكه مع أرشيف الكيان (ليس صحيحاً أنه اعتمد عليه أو تبنّاه)، كما أنّ خُلاصاته لاقت صدىً وإشادات من أوساط درزية سياسية خارج فلسطين المحتلّة، لكَشْفه الأساطير الرثّة حول "علاقة خاصة" (يا لضحالة المؤمنين بها!) تعِدُ بها دولة الفصل العنصري الدروز، دوناً عن غيرهم. 

لكنّ هذه الإشادة لم تُترجَم سياسياً بعدُ، فاللّازم، اليوم وقبل أيّ وقت آخر، أن تذهب هذه الأوساط الدُّرزية، وبعضُها لها مكانتُه على المستوى العربي، إلى تصدير موقف أكثر جدّية، يتمثّل بالدعوة إلى كفّ يد هؤلاء الجنود الذين يخدمون في جيش الاحتلال، وإدانتهم إدانة إنسانيّة ووطنية عابرة للطوائف، وعدم التعامُل مع هذه القضية، وكأنها "فرضٌ من وقائع الاحتلال"، ولا مفرّ منها. هؤلاء فاعلون في الإبادة الجماعيّة، ومنهم مَن يكون قد "ترقّى" خلال الأيام الماضية. وعليه، فالإجرام هو التوصيف الوحيد الذي يُشخِّص حالتهم.

غلاف كتاب  دروز في زمن الغفلة - القسم الثقافي

إنّ مشروع "ترانسفير" لدروز فلسطين، الذي كانت تعمل عليه "الوكالة اليهودية" قبل النكبة، للدَّفع بهم صوب العُمق السوري، والذي فشل لاحقاً لعدّة أسباب، وتورّطت فيه حينها، أسماء درزية سوريّة وفلسطينية، كما يُبيّن فرّو في كتابه، يُثبت لنا، نحن أبناء اليوم، أنّ النَّهج الصهيوني لم يتغيّر، وها نحن نشهد مشاريع شبيهة، عرّابُها مُجرم كطوني بلير، للدَّفع بالغزّيين إلى الهجرة القسرية صوب سيناء أو دول مختلفة حول العالَم. 

تكمن أهمّية كتاب فرّو في أنّه حرّر جزءاً من الوعي والتاريخ الفلسطينيّين من هيمنة السرديّة الصهيونية، فهو باحث يُقدّم مادّته العِلمية بنزاهة، بعيداً عن ثنائية "الأبطال" أو "الخونة". وضمن هذا الإطار، وضّح صاحب "خَلْق لبنان" (2003)، أنّ الاستراتيجية التي تعاملت فيها "إسرائيل" مع الدروز، بدأت باستغلال عُزلتهم وانقطاعهم في القرى الفلسطينية، ومن ثمّ تقديم تصوُّر إثني عنهم يُقارب منظور الصهيونية نفسها عن اليهود بوصفهم "أمّة"، وفقاً ليتسحاق بن تسيفي (ثاني رئيس للكيان بين عامَي 1952 و1963). في حين تولّى وكلاء مثل آبا حوشي ويوسف نحماني تنفيذ هذه الرؤية، والتي كان "الترانسفير" (1937) أحد خططها التهجيرية، قبل الانتقال إلى ادّعاء "حِلْف الدمّ"، ومن ثم هَضْمِهم داخل الكيان، والعمل على فصلهم عن محيطهم وتراثهم الإسلامي، وفَرْض "قانون التجنيد الإجباري" على شبّانهم غير المتديّنين منذ عام 1956. وفي كلّ الأحوال كانت هذه الخُطط تجدُ مَن يتواطَأ معها، أو يرفضها ويقف بالضدّ منها بِنِسَب مُتفاوتة.

شبّان جلبوا العار لأنفسهم بالتحاقهم الذليل بجيش الاحتلال

وبعد ذلك التاريخ بعامين، فُرض التجنيد على الشباب الشركس أيضاً. وينصّ قانون العقوبات الإسرائيلي، وفقاً للمادة 46أ، أنّ "كلّ من لا يُكمل فترة خدمته المفروضة عليه قانوناً، يتوقّع أسرُه مدّة سنتين"، أمّا المادّة 46 ب، فتنصّ على أن "من يتهرّب من الخدمة قصداً، يتوقّع أسْرُه مدّة خمس سنوات كحدٍّ أقصى".

بالوقوف عند هذا القانون الصهيوني بامتياز، حسب فرّو، والذي لم يكُن، قطعاً، بناءً على طلب درزي، كما يُروَّج، فإنه لا يُمكن النظر إليه بمعزل عن ديناميّات "الأسرلة" العامّة، وكَيِّ الوعي الجمعي الذي مارسته "إسرائيل" بحقّ عرب فلسطين المحتلة عام 1948، وعلى "الأقليّات" (مصطلح تحبّه القوى الاستعمارية) منهم بشكلّ خاص، إمعاناً منها في تفتيت المُفتّت. عند هذا الحدّ، نُقدّر أنّنا أمام مشكلة أكبر، تتجاوز القوانين الاحتلالية "التي لا يُمكن رفضها"، نحن أمام حالة استلاب ثقافي ووطني، هي ما تُفسّر لنا استمرار العائلات بإرسال أبنائها للخدمة في جيش مُحتلّهم (صادرت إسرائيل 83 بالمئة من أراضي الدروز الزراعية عام 1948)، وعلاوة على ذلك، إشعارُ الرَّافضين منهم بـ"النبذ الاجتماعي"، بدءاً من الدائرة الأقرب: العائلة، فليست كلّ العائلات تدعم خيار أبنائها برفض "الخدمة".

وبما أنّ تشخيص هذا القانون العسكري الاستعماري، قادنا في نهاية المطاف إلى وضع اليد على حالة استلاب و"أسرلة" عامّة، تحفظ له ديمومته، يصبح من الضروري التفكير بشكل جَمعي عن حلّ، وطرح تساؤلات عن دور عربي عامّ لا يُفرّط بالإنسان المُحتلّ، ولا يتركه نهباً للتطبيع والاستلاب، وكذلك عن دور فلسطيني يخوض مشاريع إنقاذية وتحرّرية للأرض والإنسان معاً، وإلّا ستستمر هذه المأساة المشينة.

عام 2014 أطلقت شابّاتٌ وشبّان دروز حراكاً وطنياً عابراً للطوائف، رفضاً للتجنيد الإجباري، تحت شعار "ارفُض شعبك بيحميك"، حرصوا فيه على تأمين الدعم النفسي والقانوني للرافضين، وتنظيم لقاءات لشبّان دروز بأقرانهم العرب، ولعبت النساء دوراً مركزياً في الحراك، لخرق الإطار الأبوي الضاغط الذي يتغذّى عليه "قانون التجنيد". هذه المبادرة مجرّد مثال بدأت بقدرات محدودة، ويجب تعميمها ودعمُها في هذه اللحظات المصيرية. في مقال بعنوان "التجنيد الإجباري والجندر في المجتمعات الدُّرزية تحت الاحتلال"، تكتب ميسان حمدان، إحدى الناشطات في الحراك: "إنْ أردنا تطبيق العدالة الجندريّة، والتحرّر من الصّور التقليديّة والنمطيّة المتوارثة، علينا بالضّرورة التحرّر من التجنيد الإجباري أولاً".
 

المساهمون