بحلول منتصف القرن العشرين، تكشّفت أزمة الحداثة كما وصفها بعض المعماريين، حين بدأت تظهر عيوبها الوظيفية، وباتت بساطتها ونمطيّتها قديمةً، تحتاج إلى إعادة نظر كونها لا تتناسب مع التغيّرات التي طرأت على مفهوم المدينة وضرورة تشكيلها كمكان قابل للحياة خارج منطق التسليع الذي فرضته الرأسمالية.
من بين هؤلاء، برز المعماري الأميركي روبرت فينتوري (1925 – 2018) الذي اعتُبر كتابه "التعقيد والتناقض في العمارة" (1966) بمثابة مانيفستو يقدّم رؤية تجديدية للهندسية المعمارية بوصفها مسعىً واقعياً يمكنه اختيار طرق لمعالجة المشاكل التي تطرحها الحياة المعاصرة، متخلّّصةً بذلك من نزعتها المثالية التي سادت لعقود طويلة.
ما زال الكتاب مثار جدل وخلاف في تاريخ العمارة، حيث أعيد طبعه عدّة مرات مع مقدّمات مختلفة تشير إلى أفكار مهمّة مهّدت الطريق لعمارة ما بعد الحداثة، كما ترجمته إلى العربية سعاد علي مهدي بعد سنوات قليلة من زيارة فينتوري إليها وتصميمه مباني عدة فيها، لتصدر حديثاً طبعة ثانية من الكتاب عن "المؤسّسة العربية للدراسات والنشر".
دعا فينتوري إلى التعامل مع الحداثة كجزء من سلسلة متّصلة من الاستجابات لظروف اجتماعية وتاريخية معيّنة، وإلى إضفاء الطابع النسبي إليها، حيث رأى ضرورة فهم وظائف العمارة من خلال علاقتها بمحيطها، وضرورة أن يُستمد جَوُّها من المفارقات والتعقيدات التي لا يزال هناك مكانٌ لها في معمار اليوم، مستنكراً التبسيط المفرط الذي مثّلته مباني القرن العشرين لاعتبارات التقليل من التكلفة أو استخدام أشكال معيارية متكرّرة.
عارض الفهم الوظيفي للعمارة كما ساد في القرن العشرين
وعارض أيضاً الرؤى التي بُنيت على نقاء الأسلوب والوظيفية البحتة للبناء، والتي أنتجت معنى أحادياً للعمارة منفصلاً عن الواقع ومتغرّباً عن سياقاته، ومتجاهلاً مشاكل الحياة التي على المعماري أن يستند في تصميمه إلى مقاربات حيّة وموضوعية معها قد تنزع إلى حدّ السخرية والدعابة، وتُقيم علاقة إيجابية مع تاريخ البناء والثقافة اليومية لساكنيه.
اليوم؛ يُستعاد خطاب فينتوري الذي بدا صادماً في الستينيات وتمّت مقاومته بشراسة من خلال إعاقة تنفيذ العديد من مشاريعه في مدينة نيويورك، حيث حرّر هذا الخطاب الممارسة المعمارية التي تخلقها دوغمائية السلطة وتحالفاتها مع رأس المال، وأسّس لمدارس تصميم جديدة تقوم على التعدّدية وتجذّر ارتباطها بالبيئة والمجتمع، ومقاربة الماضي بمنظار جديد، من خلال أسلوب تحليله لعمارة الحاضر، وتحليله لعمارة الماضي مقارنةً بالحاضر، واستلهام التراث وتوظيفه بشكل فعّال في العمارة المعاصرة.
وطبّق صاحب كتاب "العمارة كعلامات وأنظمة" (2004/ مشترك) رؤيته ضمن مشاريع عديدة، منها تصميم جامع الدولة الكبير في بغداد عام 1983، الذي تضمّن انقلاباً مفاهيمياً وجمالياً في عمارة المسجد، حيث صمّم قبّته على الأرض، وتعامل معها كجزء من مفردات صحن المسجد، وليست عنصراً تزيينياً، إلى جانب مبنى شارع الجمهورية ذي الطوابق الثمانية الذي استفاد من تجميع عناصر مختلفة من الشارع البغدادي وتوليفها في تصميم واحد.
يقارن فينتوري في كتابه العمارةَ بالشعر، ويشير إلى إمكانية الاستفادة من أساليب نقد الأدب في نقد العمارة، بما في ذلك النقد الذاتي الذي يُعدّ ذا أهمّية قصوى في عملية الخلق، وهو أسمى أنواع النقد وأكثرها فاعلية، مقدمّاً تصوّرات ما زالت موضع بحث ودرس، حول واقعية العمارة التي يجب ألّا تستسلم إلى التبسيط الذي يبعث على الضجر.