ركام غزّة: عبارات عاجزة وكلام لا يفي بمضمونه

30 أكتوبر 2024
شاب فلسطيني في أحد طوابق مبنى مُدمر في خانيونس جنوب قطاع غزّة، 8 تموز/ يوليو 2024 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- الحرب في غزة أدت إلى دمار هائل، حيث استشهد 42 ألف شخص وتدمرت 80% من البنية التحتية، بما في ذلك المساكن والمؤسسات الحكومية، مما حول أحياء كاملة إلى ركام.
- تعكس مشاهد الدمار تناقضات الفكر الغربي وازدواجية المعايير، حيث تُهدم معالم غزة دون رد فعل دولي، بينما تُحتفى بالمعالم التاريخية في الغرب.
- الأنقاض في غزة ترمز لانهيار مبادئ حقوق الإنسان، حيث تعجز الجهود الدولية عن تقديم الدعم اللازم لإعادة البناء، مما يعكس حجم المأساة الإنسانية.

إنَّ متابعة حرب الإبادة التي تجري في غزّة حاليًّا تُظهر الحجم المتزايد للمفردات والعبارات المُحيلة إلى سجل الدمار والتحطيم والهدم والركام. فقد طاولت وحشية الضربات الإسرائيلية، إلى جانب الاثنين وأربعين ألف شهيد، ثمانين في المائة من البنية التحتية لقطاع غزّة وما فيها من مبانٍ تشمل المساكن الخاصة ومؤسّسات الدولة حتى سُوّيت جميعها، بل أحياء كاملة، بالأرض. 

في الماضي القريب، لم تكن عبارات مثل "على أنقاض" أو "سُوِّي بالأرض" أو "ركام" سوى استعارات تدلّ على المبالغة في التهديم أو على بصيص الأمل كما في عبارة "شُيّد الفكر الفلاني على أنقاض كذا"، لكنها هنا حقيقة لا مجاز فيها، وواقع أليم يعجز الكلام المباشر عن الإيفاء بمضمونه، إذ لا تقدر لغة الكلام على توصيف عنف الانفجارات التي قد تحيل عمارة كاملة إلى كُدس مفتّت، كأنّها كانت من الكرتون أو الهواء، رغم أنّها مبنية من الصخر والحديد.

ينهار كل شيء بفعل القصف الإجرامي الذي يستعين بأرقى النظريات الفيزيائية في تصنيع الأسلحة الأشدّ تدميرًا وفتكًا. والأقسى أنّها تُجرّب على مبانٍ بسيطة، شيّدها الغزيون بعرق الجبين أو بمساعدة من بعض الدول العربية والإسلامية.

يجسّد ركام غزّة تناقضات الفكر الغربي وعجزه عن وقف الإبادة

ومع أنّها تستعمل حقيقة لا مجازًا، تعجز هذه العبارات عن تصوير حجم الدمار؛ لأنّها بقيت في دائرة المألوف المتمثّل في التهديم المقرّر للمباني، مثل ما يجري في بعض المدن حين يتقرّر ترميم أحيائها القديمة أو تجديدها. أمّا ما نشاهده اليوم فهو نسف شامل للعمارات، وهو من الشدة والهمجية حتى إننا نحتاج، من أجل وصفه، إلى مفردات تنحدر من سجلّ أهوال الآخرة ونهاية العالم، لعلّها توفي ببعض هذا العنف الذي لا يتناهى. وإلا فكيف يمكننا التعبير عن مشاهد التفتيت الكامل لأحياء بأسرها، شوارعها ومبانيها، مرافقها ومغانيها، وقد صارت اليوم "يبابًا بلقعًا"، ولا مجازَ ولا مبالغة. 

ولذلك يجتهد الصحافيون في إبراز آثار القصف على أحياء غزّة وما يخلفه من أنقاض صارت هي الأخرى عدوًّا خفيًّا للفلسطينيّين، حيث يقضي البعض منهم اختناقاً بغبار تهاويها، ويموت الآخرون تحت وطأة سقوط الجدران وإسمنتها المسلّح وما يحتويه من حديد قاتلٍ كالرصاص، لكن بلا رحمة.

وقد برعت هذه الأقلام في نقل الخراب المطلق الذي أصاب هذه الأحياء، فتحوّلت إلى أكوام من الحجارة تستحيل فيها الحياة بعد أن كانت عامرة بالاجتماعات العائلية، تؤوي، مثل أي بيت في العالم، أُسرًا كاملة بآمالها وآلامها، بقصص حبّها وخيباتها، بتفاصيل حياتها البسيطة، كمتابعة التلفزيون أو الدردشة على الهاتف مع الأصدقاء، كما يجري ذلك في كل بيوت الدنيا. وإذا بها تصبح أشباحًا بفعل القصف المستمر لأكثر من سنة، مجرد أكوام حجر مترامية، يستحيل السير بين جنباتها فضلًا عن رفعها. 

صارت مشاهد الأنقاض سلاحًا حقيقيًّا يستخدمه الاحتلال

ومع أن هذه المشاهد التي تنقل يوميًّا على القنوات الشريفة وتغيّبها "قنوات التعامي" تذكِّر بمشاهد الدمار التي لحقت بالمدن الألمانية والروسية والفرنسية إبّان الحربين العالميتين، لكن ذلك لا يُحرّك مشاعر ساسة هذه الدول الذين عجزوا عن إيقاف دوامة الهمجيّة. ففي حين لا تزال تُعرض مشاهد دمار هاتين الحربيْن كما لو كانت قد حصلت بالأمس القريب، تتجاهل هذه القنوات نفسها عن قصد مشاهد تهديم منازل الغَزّيين ومرافقهم. هؤلاء العُزّل الذين هُجّروا قسرًا بعد أن رأوا بيوتهم تنهار أمام أعينهم، هذا لمن حالفه الحظ. أمّا البقية فقد قضت تحت الأنقاض التي صارت قبرًا للمئات منهم بعد أن عجز أهاليهم عن إخراجهم من تحتها. 

وكم هو مُوحشٌ أن نرى مشهد أولئك الشبان الذين ينبشون الحجارة بأيديهم، كأنّها قبور مغمورة، للوصول إلى جسد لا يزال فيه رمق حياة وبقيّة نفَس. وكم هو مؤلم أن يحاول والدٌ تحريك تلك الأحجار من دون الإضرار بجسد ابنٍ ثاوٍ تحتها، عسى أن يظفر به ولا تزال فيه حُشاشة بقاء. أيادٍ يائسة تصارع أطنان صخر صلب كانت فلذة الكبد تمرح في جنباته، فإذا به يتحوّل إلى قبر أشد صلابة وصممًا. 

ولا بد من لفتة هنا إلى فرق الإنقاذ الفلسطينية والأجنبية - وهي قليلة جدًّا- التي لا تزال تواجه هذه الأكوام وتتفانى في رفعها بأدوات بدائية، بعد أن حرمها الحصار من كلّ مقومات العمل الكريم وأبسط أدوات الإسعاف والإنقاذ ومع ذلك تهبُّ مع كل قصفٍ لتقاوم ما تكدّس من الأحجار والحديد. ولا ننسى أن تسوية المدن بالأرض ومشاهد الأنقاض صارت سلاحًا حقيقيًّا وتهديدا فعّالًا ترفعه اليوم "إسرائيل" في مواجهة لبنان وإيران، لِما لهذا التدمير وصوره من آثار سلبية على وعي المقاومة. فهو لا يرمز إلى الخراب، بل هو الخراب والعدم واللاشيء.

وكم كان يحلو للمثقفين في الغرب ولمؤسّساته الرسمية أن يقيموا الدنيا ولا يقعدوها إذا مسَّ عمل إرهابيّ ما معلمًا تاريخيًّا، اقترفه فردٌ ينتمي إلى بني جلدتنا، مدّعين أنّه ملك للإنسانية جمعاء وأنّه محميّ بالقوانين الدولية. ولكن هذه الأطراف نفسها لا تحرك ساكنًا اليوم بعد أن هُدمت معالم غزّة، مساجدها وكنائسها ومستشفياتها وسُوّيت جميعها بالأرض بسبب الأسلحة الغربية الفتاكة، والتي لولاها لما تمكّن المُحتَلّ من إلحاق هذا القدر من الأضرار، و"إعادتها إلى العصر الحجري" كما يتبجّح القادة العسكريون بذلك. 

كم يَحزن المتابع البعيد للشأن الفلسطيني أن ينعم بمشاهد العمران وقيام ناطحات السحاب شامخةً في حين يضيق المجال البصري للغَزيين، فلا يشمل سوى أكوام لا متناهية من الركام والأنقاض تمتدّ على عشرات الكيلومترات على قارعتي الطريق، وبينهما جحافل العزّل يروحون ويغدون كأنهم في تيه تحت أنظار العالم "المتحضّر" الذي يتباكى على تحطيم تمثال هنا وهناك ويملأ الدنيا صخبًا إذا سُرقت منه حجارة واحدة. إن أنقاض المساجد والكنائس المتراكمة في أحياء غزّة لهو أكبر تحدٍّ للحداثة وتفنيدٍ لمقولاتها، لأنّها تجسّد تناقضات الفكر الغربي وسقوطه وعجزه عن إيقاف مسارات الهمجيّة التي بعد أن طاولت البشر وأدنى حقوقه في الحياة، وصلت الحجرَ وما يحمله من مبادئ التراث والذاكرة والمعالم التاريخية التي تشهد على الماضي وترتبط بالهوية والانتماء وحرية السكن وحق الأمان والحماية. فمع كل قصف، يتلاشى خطاب الحداثة وينتشر في الفضاء متفتتًا متناثرًا. 

أكوام غزّة تحيل إلى أكوام حقوق الإنسان بعد أن تخلخل بناؤها وانهارت مبادئها، نراها ماثلة كأكوام ينبش فيها أمثالنا عن بقايا أمل في احترام الإنسان غير الغربي، فلا نكاد نعثر على شيءٍ. ولا ندري بأي خطاب سيبرر العرب أو الغرب عملية إعادة بناء غزة. رجاءً، لا تعيدوا الآن بناء غزّة، اتركوا أكوام حجارتها شاهدة على انهيار الحضارة وسقوطها المدوّي.


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

المساهمون