العالمُ رماديٌّ في هذا الموقع، حيث إحداثيّاته الزمنية والمكانية لا يعرفها إلّا مُلاحِظٌ يجلس بلامبالاةٍ على صدر الشمس البارز. الملاحظون الآخرون أطفأوا أجهزة تحديد الإحداثيات وهم منكفئون على كتابة مذكّراتهم.
تخيّلتُ أنّهم حين كانوا يشتغلون وكانت إحداثياتهم تتغيّر، كان ذلك سببَ تغيُّر مشاعرنا. تتغيّر مشاعري أيضاً، كلّما نظرتُ في خيالي إلى عَينيّ ذلك الملاحِظ البعيد الذي يرمقني بسخرية. لو نتبادل الأدوار؟ لو أصبحتُ أنا المُلاحِظ وهو ساكن الأرض التعيس؟ لن يقبل أن يحمل في كلِّ خطوةٍ صخرة سيزيف على كتفيه، بينما عليه أن يمشي ويتكلّم، يعمل ويُلاطف زوجته وأطفاله، يحكي مع زملائه وينحني بحركةٍ خفيفة، لا يلمحها إلّا الخبير في علم الانحناء والتطبيل عندما يمرّ مدير الشركة من أمامه في الرواق البارد الرمادي للبناء شديد الارتفاع، في تلك المدينة المغلّفة بالصقيع.
كنتُ أحسد مُلاحِظ الأرض الذي يسكن الشمس. كان وحيداً هناك، لا يُزعجه أحدٌ بثرثرته وبآرائه في السياسة والمجتمع، وهل هناك من يمارس السياسة على الشمس؟ لا بدّ أنهم احترقوا. هههه... الشمس لا ترضى بأن يثرثر أولئك السفلة عند صَدغيها، الشمس مصباح العالم، بل ثُريّاه الفخمة، ليس لديها وقت لِنسّاجي الكذب وحائكي الوعود التي لا مواعيد لتنفيذها. ليس هناك غير ذلك المُلاحِظ الذي سَمحَتْ له بأن يضع رِحاله على غُرّتها الوهّاجة الملتهبة، كي يقوم بعمله الجاد الذي كُلّف به.
لا وقت لِنسّاجي الكذب وحائكي الوعود التي لا مواعيد لتنفيذها
أشعر بالاختناق لأنّ الأكسجين على الأرض بدأ يتناقص. الواقع، هناك من يقول إنّها أزمة صِدق وَثِقة، فَغيمات الكذب تمتصّ الأكسجين وتُحوّله إلى غازات سامّة، ويبدو أنَّ الكثير من الناس أُصيبوا باختناقاتٍ متفاوتة الخطورة، بحسب نوع الغاز الذي اشتمّوه.
لم يكن لون العالم رمادياً من قبل. كانت هنالك ألوان عديدة مبهجة، أحاول أن أحتفظ بها في ذاكرتي كي أتمكّن من المقاومة. الذي حدث أنّه في يوم من الأيام، حين حاصرتنا غيمات الكذب، بدأت الألوان تمّحي وتتحوّل بالتدريج إلى رماديٍ مُوحّد. أوراق الأشجار رماديّة، الأقحوان والبنفسج صارا رماديَّين، ملابسنا، المباني، السيارات، بشرة أجسادنا، كلّ شيء صار رماديّاً، حتى الحب صار رماديّاً. وقُبلتي لزوجتي كذلك، صارت رماديّة مثل رماد سيجارة لا يترك أثراً على شفتيها وعلى شفتَيّ.
كنا نتوقع الأسوأ، وننتظر الأخبار في التلفاز وعلى الإنترنت. قال بعض العلماء إنّ مصيرنا سيتحدَّد لو أخطأ المُلاحِظ الموجود في الشمس بتحديد إحداثيّاتنا. لو حصل ذلك، يمكن أن نحترق أو نتجمّد، لم يعد الأمر يعنيني. كنت أحلم بأن يلمحني المُلاحظ الشمسي في خيالاته، حينها كنت سأقول له: "توسَّط لي عند سيّدتك الشمس كي أشتغل مساعداً لك".
* كاتبة من الجزائر