رحيل عبد الكريم رافق: إعادة اكتشاف سورية خلال الحُكم العثماني

11 يونيو 2024
عبد الكريم رافق (1931 - 2024) في بورتريه لـ أنس عوض (العربي الجديد)
+ الخط -
اظهر الملخص
- عبد الكريم رافق، المؤرخ السوري الأميركي، أسس لمقاربة جديدة في دراسة التاريخ العثماني لسورية معتمدًا على سجلات المحاكم الشرعية بعد تعليمه في سورية وبريطانيا.
- أثرى رافق المكتبة العربية بأعمال تناولت الحياة العثمانية في سورية، مساهمًا في تطوير منهجية البحث التاريخي بأعمال مثل "العرب والعثمانيون 1516 - 1918".
- ترك إرثًا ثقافيًا وأكاديميًا غنيًا يُعد مرجعًا لدراسة التاريخ العثماني، مؤثرًا في أجيال من الطلاب والباحثين، ويُذكر بعد وفاته كقامة سورية كبيرة في المجال الأكاديمي.

في صمتٍ، غادرَنا المؤرّخ السوري الأميركي عبد الكريم رافق، أول من أمس الأحد، التاسع من حزيران/ يونيو الجاري، إثر حادث أليم، بعد مسيرة أكاديمية طويلة ما بين سورية والأردن ولبنان والولايات المتّحدة، جعلت منه مرجعاً لعدّة أجيال أسهمت في إعادة اكتشاف سورية خلال الحكم العثماني. وقد كان لي شرف التعلّم على يديه خلال العام الجامعي 1973 - 1974 في "جامعة دمشق"، والذي اعتمد لنا فيه كتابه الجديد حينها "العرب والعثمانيون 1516 - 1918" الذي كان يصدر في مَلازم على مدى ذلك العام حتى اكتماله في 1974، والسير في مقاربته للتاريخ الاقتصادي والاجتماعي لسورية خلال الحُكم العثماني بالاستناد إلى سجلّات المحاكم الشرعية، وشرف مزاملته حين جاء إلى الأردن بعد تقاعده سنة 2000 في عدّة زيارات للمشاركة في مناقشات الماجستير والدكتوراه والندوات العلمية. 

وُلد عبد الكريم رافق عام 1931 في مدينة إدلب شمالي سورية، التي تُعتبر متحفاً مفتوحاً لتاريخ سورية القديم، والتحق بالمدرسة الإنكليزية في إدلب عام 1937 إلى 1947، ثمّ تابع دراسته الثانوية في الكلّية الأميركية بحلب خلال 1947 - 1951. ومع تخرُّجه، التحق بقسم التاريخ الذي افتتح حديثاً في "جامعة دمشق" (1951 - 1955)، وعمل مدرّساً فيه خلال 1956 – 1958، إلى أن حصل بعدها على بعثة للماجستير والدكتوراه في "كلّية الدراسات الشرقية والأفريقية" بجامعة لندن.

كانت سنوات الدراسة في لندن (1958 - 1963) نقلةً نوعية في مساره لناحية البحث والمنهج مع وجود كوكبة من المؤرّخين مثل إيريك هوبزباوم وبرنارد لويس، وبيتر هولت الذي أشرف على رسالته للدكتوراه "ولاية دمشق 1723 - 1783"، والتي أصبحت الأساس لمقاربته الجديدة للتاريخ الاقتصادي والاجتماعي والعمراني لسورية خلال الحكم العثماني بالاعتماد على مصادر محلّية مثل سجلّات المحاكم الشرعية وغيرها. وكان قد سبقه إلى ذلك المؤرّخ الأردني عبد الكريم غرايبة (1923 - 2014) الذي ناقش رسالته للدكتوراه "التجّار الإنكليز في سورية في القرن الثامن عشر 1744 - 1791" عام 1951، والتي اعتمد فيها على سجلّات المحاكم الشرعية وانضمّ في 1953 إلى قسم التاريخ في "جامعة دمشق"، كما لحقه أيضاً في القسم المؤرّخ الأردني محمد عدنان البخيت (1941) الذي اعتمد على سجلّات المحكمة الشرعية في رسالته للدكتوراه "ولاية دمشق العثمانية في القرن السادس عشر" (1972).

تخلّصت دراساته من المقاربات الاستشراقية والأيديولوجية

عاد رافق إلى دمشق مع المؤرّخ الأميركي جون ماندفيل (1938 - 2019) - الذي كان قد حصل على الماجستير في التاريخ الإسلامي عام 1961 من "جامعة إدنبرة" البريطانية - ونشر عام 1966 دراسته الرائدة "سجلّات المحاكم العثمانية في سوريا والأردن"، ليبدأ بذلك انعطافة جديدة في أبحاثه اللاحقة التي ميّزته على المستوى السوري والعربي والغربي بعد كتابه "العرب والعثمانيون".

ومع هذه الانعطافة الجديدة التي أثمرت مقاربة جديدة للتاريخ المحلّي خلال الحُكم العثماني تعتمد على منجم من المعطيات (سجلّات المحاكم الشرعية)، تخلّصت الدراسات من المقاربات الاستشراقية والأيديولوجية المسبقة، وبدأت تبنّي تاريخها بالاعتماد على تحليل التركيبة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في سورية خلال الحُكم العثماني، بالاعتماد على سجلّات المحاكم الشرعية التي تغطّي سورية ولبنان والأردن وفلسطين.


غزّة وفلسطين 

تتجلّى تلك الانعطافة في عناوين الدراسات التي نشرها عبد الكريم رافق في مجلّة "دراسات تاريخية" خلال ثمانينيات القرن العشرين وتسعينياته، وهي الفترة التي أصبحت فيها هذه المجلّة بوصلة للمقاربة الجديدة لتاريخ بلاد الشام خلال الحكم العثماني. ففي عام 1980، نشر فيها دراسته "مظاهر من الحياة العسكرية في بلاد الشام من القرن السادس عشر" وفي 1981 نشر فيها "مظاهر من التنظيم الحرفي في بلاد الشام في العهد العثماني" و"قافلة الحجّ الشامّي وأهميتها في العهد العثماني"، والتي أصبحت دراسةً مرجعية للباحثين العرب والغربيّين بعد صدورها بالإنكليزية.

وفي 1982، نشر رافق دراستَين رائدتين عن غزّة بعنوان "جوانب من التاريخ العمراني والاجتماعي والاقتصادي في غزّة"، وقد نُشرتا معاً عام 1982 في كتاب بعنوان "غزّة: دراسة عمرانية واجتماعية واقتصادية من خلال الوثائق الشرعية 1273 - 1277 هـ/ 1857 - 1861".

نشر دراستَين رائدتين عن تاريخ غزّة خلال الفترة العثمانية

وخلال 1984، نشر أيضاً دراستين: "مظاهر سكّانية من دمشق في العهد العثماني" و"الاقتصاد الدمشقي في مواجهة الاقتصاد الأوربي في القرن التاسع عشر"، بينما نشر في 1987 دراسة بعنوان "البنية الاجتماعية والاقتصادية لمحلّة باب المصلى (الميدان) بدمشق"، أصبحت نواة لرسالة دكتوراه للمؤرّخة الفرنسية بريجيت مارينو "حي الميدان في العصر العثماني"، التي صدرت ترجمتها العربية بتوقيع ماهر الشريف عام 2000. 

وفي العام نفسه (1987) صدرت دراسته الموسّعة "فلسطين في عهد العثمانيّين: من مطلع القرن السادس عشر إلى مطلع القرن التاسع عشر" في القسم الخاص من "الموسوعة الفلسطينية"، وهي الدراسة التي تستحقّ أن تُنشر ثانية مع دراستيه الرائدتين عن غزّة.


عندما كانت الجامعة السورية مستقلّة

شارك عبد الكريم رافق مع زملائه المؤرّخين السوريّين، أمثال نبيه العاقل ومحمد خير فارس وغيرهما، في دعم قسم التاريخ الجديد في الجامعة الأردنية خلال 1969 - 1971، كما درّس في الجامعة اللبنانية بين سنتَي 1973 و1979، وفي عدّة جامعات أميركية: بنسلفانيا (1877 - 1978) وشيكاغو (1981 - 1983) وكاليفورنيا (1984) وغيرها، بينما شغل رئاسة القسم لفترتين (1976 - 1977) و(1988 - 1990) كانتا حافلتين بالأحداث غير الأكاديمية.

بعد تقاعده عام 2004 وانتقاله إلى العمل في "جامعة وليم وماري" الأميركية، بقي عبد الكريم رافق وفيّاً لجامعته التي درَس ودرّس فيها، فأصدر عام 2004 كتابه المرجعي "الجامعة السورية: البداية والنموّ 1901 - 1946"، والذي كشف فيه لأوّل مرّة عن كثير من المعطيات التي استمدّها من الأرشيف الفرنسي وغيره. ومع أنّه أُخذ عليه توقّفه عند عام 1946، لكنه في نهاية الكتاب يسجّل جملة لها دلالتها، ورد فيها تعيين الدكتور حسني سبح رئيساً للجامعة بعد عدّة رؤساء جاؤوا بمعايير سياسية، ليقول: "وعادت بذلك إلى الجامعة استقلاليتها وإلى الدكتور حسني سبح الاعتراف بسلامة موقفه في المحافظة على كرامة الجامعة وأساتذتها واستقلالها" (ص 312).

أمّا ما حدث بعد ذلك، فيرويه العماد مصطفى طلاس في مذكّراته "مرآة حياتي" عن الفترة التي كان فيها عبد الكريم رافق يُدرّس في قسم التاريخ خلال سبعينيات القرن الماضي؛ فقد سجّل في القسم الضابط رفعت الأسد الذي كان يأتي يوم الامتحان بمفرزة من الحرس ليتحلّقوا حوله لكي يجيب براحته عن الأسئلة، فلما نُقل ذلك إلى رئيس القسم محمد خير فارس اتّصل بوزير الدفاع مصطفى طلاس الذي قال له: "لا تفعل شيئاً، لأنّه لن يعمل لديكم أستاذ تاريخ!" (ص 29). ومن الطبيعي أن ينعكس هذا الجوّ على التدريس وانتقاء الجيل الجديد من المدرّسين.

في أحد لقاءاتنا في الأردن، التي حضر فيها عدّة مناقشات لرسائل ماجستير ودكتوراه وندوات، كان يُعبّر عن هذا الوضع المتراكم كما يلي: "لا أُصدّق أنّ هؤلاء الأردنيّين الذين علّمناهم وصلوا إلى ما هُم فيه!".

رحل عبد الكريم رافق أول من أمس الأحد، وتُرافِق روحَه الآن (يُدفن غداً الأربعاء في ولاية بوسطن) مشاعرُ زملائه وطلّابه، التي تدعو له بالرحمة والسلام وتتذكّره قامةً سورية كبيرة فرضت احترامها بتواضعه وعلمه الغزير ومحبّته للجميع.



من الشام إلى مصر

من أبرز الكتب والدراسات التي تركها المؤرّخ الراحل: "العرب والعثمانيون 1516 - 1916"، و"بحوث في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي لبلاد الشام"، و"بلاد الشام ومصر من الفتح العثماني إلى حملة نابليون بونابرت"، و"بحوث في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي لبلاد الشام"، و"المشرق العربي في العهد العثماني"، و"جوانب من التاريخ العمراني والاجتماعي والاقتصادي في غزة 1857 - 1861م"، و"تاريخ الجامعة السورية: البداية والنموّ".


* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري
 

المساهمون