رحيل بورا ديورديفيتش.. نظرة الشاعر الأخيرة إلى وطنه

12 سبتمبر 2024
بورا ديورديفيتش (1952 - 2024)، نظرة الملاك الأخيرة إلى وطنه
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- توفي الشاعر والمغني الصربي بوريسلاف ديورديفيتش "بورا" عن عمر 72 عامًا بسبب التهاب مزمن في الرئتين، وكان قائد فرقة الروك "Fish Stew".
- بورا كان معروفًا بصوته الأجش وأسلوبه الساخر، وبدأ مسيرته الفنية في المدرسة الثانوية، وأسس فرقته الأولى "Together" في 1972، ثم "Fish Stew" في 1978.
- بعد الحرب الأهلية في يوغوسلافيا، دعم الجنود الصربيين ثم عارض حكومة ميلوسوفيتش، وانخرط في السياسة، ونال العديد من الجوائز عن كتبه وموسيقاه.

في الرابع من أيلول/ سبتمبر الجاري، رحلَ الشاعر والمُلحِّن والمُغنّي والمُمثِّل الصربي بوريسلاف ديورديفيتش Borislav Djordjevic، المعروف بـ"بورا" (صيغة التحبب ورفع الكلفة لاسم بوريسلاف)، والذي ذاع صيتُه قائداً لفرقة الروك الصربية - اليوغسلافية "Fish Stew"، عن عُمر ناهز الثانية والسبعين عاماً، إثر إصابته بالتهاب مُزمن في الرئتين.

وعلى مدى السنوات السابقة جابَهَ ديورديفيتش حالتَه هذه مرّاتٍ عديدة، دون أن تحُول بينه وبين أدائه وإبداعه المستمرَّين، لكنّه ومنذ سنة مضت، وخلال آخر حفلٍ له في بلدته الأم تشاتشاك في صربيا، حيث أقامه تحت إشراف فريق طبّي، أيقنَ أن شمس حياته آيلةٌ إلى الأُفول في القريب، وخاطب جمهوره: "في حقيقة الأمر، لا أَشعُر أنّي على ما يُرام، أنا مريض حتى العظم".

وبدأ ديورديفيتش وداعَه لجمهور بلدته المفتون بأبيات من قصيدته حديثة الكتابة "غيتاران"، مُضيفاً: "يبدو أنني أوشكتُ على النهاية، هيِّئوا الموكبَ الأزرق". مع ذلك استمرّ المُعجَبون الذاهلون يُغنّون ويصفّقون تحت تأثير نشوتهم، رغم أنّ ديورديفيتش نطق بأُمنيته الأخيرة: "ابعثوا بجثماني إلى تشاتشاك، إلى صربيا"، مُتابعاً: "قلبي برسم ليوبليانا، فليكن هناك".

عارض الإبادة الصربية فصدرت أوامر جماعة ميلوسيفيتش بقتله

عُرفَ الشاعر والمُغنّي الراحل بصوته الأجشّ القويّ، وبطبيعته المتمرّدة وغريبة الأطوار، وطريقة الكتابة الساخرة والناقدة الحاضرة في مؤلّفاته وأغاني الروك المُفعمة بالرومانسية، لكنّها في الوقت نفسه تبقى لغة متجاوزة للسُّوقية، في تعاملها مع مسائل اجتماعية وسياسية ووجودية مُتباينة مثل الظلم الاجتماعي والحروب والمعاناة والحب والموت.

وقد شرَع المُغنّي والموسيقي الراحل بالكتابةَ في مرحلة الدراسة الثانوية، في حين أنه بدأ بالعزف في مرحلة أبكر، وكان ما يزال طالباً في بلدته الأم تشاتشاك. وأثناء مواصلته الدراسةَ في بلغراد، سنة 1972، أسَّسَ فرقته الموسيقية الأُولى "Together"، التي سجّل من خلالها أُغنيات عديدة، لكن بعد سنوات قليلة انفرطَ عقْدُ الفريق ليؤسّس "Fish Stew" في صيف 1978، وسرعان ما أصبحت هذه الفرقة مشهورة للغاية خلال أشهُر قليلة.

أُغنياته ذات التوجّه الاجتماعي التحريضي، بالإضافة إلى مسرحيّتين مونودراميّتين: "أنا ضدّ مقولة اذهبْ إلى الحرب وحيداً"، و"بورا ينطق بالسفاسف"، كلّ هذا جعله واحداً من الموسيقيّين المُثيرين للجدل في يوغوسلافيا السابقة، واعتُبر عدوّاً للدولة، ولوحِق من قِبَل المُخابرات السرّية في بلاده، خاصة بعد أُغنيته "عضو المافيا" (من ألبوم "Cosa Nostra") سنة 1990، التي اتُّهم على أثرها بـ"إهانة الطبقة العاملة اليوغوسلافية".

وبعد اندلاع الحرب الأهلية في يوغوسلافيا السابقة، كان ديورديفيتش من الداعمين للجنود الصربيّين في جمهوريتيّ صربسكا، وصربسكا كرابينا. ومع تطوّر مجريات الحرب، أصبح مُعارضاً لا يُشق له غبار لحكومة سلوبودان ميلوسوفيتش، وعبّر عن موقفه من خلال ألبومه "في زمنهم"، الذي أطلقه باسمه وحده، دون شعار "Fish Stew". وفي بعض المقابلات اللاحقة، قال ديورديفيتش إنه بسبب أُغنية "الجدّة جولا" أصدر أتباع ميلوسيفيتش الأوامرَ بقتله.

لاحقاً، أصبح عضواً في مجلس مدينة بلغراد عن "الحزب الديمقراطي الجديد"، وبعد التغيُّرات السياسية، شغَل منصب مستشارٍ لوزير الثقافة في الحكومة الصربية لبعض الوقت عام 2004، لكنه أُرغم على الاستقالة في السنة التالية بعد إدانته صحافيي قناة "B92" التلفزيونية ونعتَهم بـ"الخونة".

كذلك عارض ديورديفيتش سياسات الغرب العسكرية التوسعية، وكتَبَ الكثير من الأغاني المتعلّقة بهذا الشأن، ورأى في إحدى مقابلاته الأخيرة "أن هناك حرباً ستقع، ولا سلام إلا بوصول الغرب إلى سيبيريا"، وتوقّع إشعال الحروب في المنطقة العربية، وأثبت هذا في قصيدة بعنوان "أميركا" التي نُشرت في آخر كتُبه الشعرية "جزيرة الصحراء" (2017) الذي نال عنه، في العام التالي، "جائزة إيفو أندريتش".

تبقى اللحظة الفارقة التي صنعت مسيرة بورا ديورديفيتش المهنية، ودوَّنت اسمه على صفحات التاريخ، تلك التي جاءت عقب فشَل ألبُومه الخامس "تستمتعون الليلةَ بموسيقيّين يشربون الخمر" (1984)، والجولة التي تلَتْ ذلك، عندما استماتَ بعدها في سبيل إنقاذ مستقبل الفرقة بكتابة وتأليف ألبوم جديد بعنوان "الحقيقة" (1995)، الذي تضمّن أُغنية "انظر إلى الوطن أيّها الملاك"، والتي استعار عنوانها من رواية الكاتب الأميركي توماس وولف (1900 - 1938)، وموضوعها هو سنوات الكساد الكبير في أميركا.

وبالنسبة إلى الكثيرين، تُعتبر "انظُر إلى الوطن أيّها الملاك" العمل الأكثر أهمّية على الإطلاق الذي كتبَه ديورديفيتش وألّف موسيقاه، ويُنظر إليه على أنه سيمفونية لكونه أحد أكثر الآثار المكتوبة تميُّزاً في تاريخ الأغنية البلقانية المعاصرة، بالإضافة إلى أنه نشيد وطني غير رسمي، أو نشيد وطني ضدّ الحرب بالنسبة إلى كلّ الناس في أنحاء العالم.

وفيه يقول: "انظر إلى وطنك أيها الملاك/ أشِحْ شِباك العناكب عن عينيك/ وسترى مشاهِدَ قبيحةً/ سترى القانِطَ والمريض/ سترى الآلامَ والموت والشقاء/ انظر إلى رعيّتك أيها الملاك/ ليس هناك إِلا مقعدون وشحّاذون/ عُميان يتعثّرون بين الجموع/ وكلّهم مكسورو الظهور/ والآن ها هُم يَرنون إليك لعلّك تُنقذهم/ انظر إلى الأوباش الذين ارتكبوا الإثمَ أيّها الملاك/ إنّ أرواحهم ملعونة/ أولئك الذين ربطوا العُصابات على عيون الجميع/ شيّدوا لأنفسهم المعابدَ/ وأيديهم ملطّخة بالدماء/ فامتشقْ سيفَك أيها الملاك/ وتذكّر القاتلين/ تذكّر المقتولين/ لحظةَ تمثُل أمام الله/ اترُكِ السَّكينة تَسْكُن روحك/ تقبَّلْ صلواتنا أيها الملاك/ ودَعْ كلَّ أعدائنا يسقطون صرعى/ كنْ ملاكَ القصاص/ دعهم يتحسّسون جلودَهم كي يُدركوا ما يعنيه الشقاء والخوف والألم/ انظر إلى وطنك أيّها الملاك/ أشِح عن عينيك شِباك العناكب/ وسترى مشاهد قبيحة/ سترى القانِطَ والمريض/ سترى الآلام والموت والشقاء".

نال "بورا" خلال مسيرته، التي استمرّت ما ينوف على خمسين عاماً، العديد من الجوائز عن كتبه وموسيقاه وتأليفه الموسيقي للأفلام والأوبريتات. وقد نشر عشر مجموعات شعرية وكتب ما يزيد عن ثلاثمئة أغنية وأطلق أكثر من أربعة وعشرين ألبوماً موسيقياً.

ولكي نَصِفَ تُراثه الإبداعي وقناعاته الحقيقية، لا يسعني إلّا اقتباس بيتٍ شعريّ من إحدى قصائده: "أَعِنّي على الموتِ، فالوهْمُ يحدُوني بأنَّ الحبَّ الصّميمَ موجودٌ".


* كاتب من البلقان

المساهمون