"عندما تكون لدينا مقولةٌ نودّ قولَها كعلماء اجتماع، فإن هذا قد يأخذ منّا ثلاثين عاماً". بهذه الكلمات يعلّق عالم الاجتماع الفرنسي ألان تورين على طبيعة عمله التي تتطلّب حفراً معمّقاً، وإعادة حفر، ونظراً في الأمور من كلّ جوانبها، لتقديم جديدٍ في حقلٍ بحثيّ شاغلُه الأوّل هو الذهاب أبعد من "الوهلة الأولى" ومن المعتقدات الاجتماعية المتّفَق عليها.
عن 97 عاماً، رحل ألان تورين فجر اليوم الجمعة في باريس، لتفقد الساحة الفكرية في فرنسا، وحتى خارجها، واحداً من أبرز علماء الاجتماع في أيامنا هذه.
وإذا كانت عبارة تورين أعلاه استعارةً، فإنها استعارةٌ تقصد التعبير عن حقيقة يمكن الوقوف عليها في تجربته التي يمكن تقسيمها إلى مراحل، حيث خصّص سنواتٍ في كلّ واحدةٍ من هذه المراحل للإجابة عن أسئلة كانت تؤرّقه.
ففي البدايات، انشغل صاحب "الكلام والدَّم" (1988) بعوالم العمّال والكادحين في المجتمع الصناعي الذي كانت تعيشه فرنسا - وأوروبا بشكل عام - في خمسينيات وستّينيات القرن الماضي. فترةٌ وضع فيها ــ بعد أطروحته لنيل درجة الدكتوراه، عام 1955، والتي حملت عنوان "تطوّر العمل في المصانع" ــ مثل "الوعي العمّالي" (1966)، و"المجتمع ما بعد الصناعي: ولادةُ مجتمع" (1969)، وكذلك "عمّال جاؤوا من خلفية زراعية" (1961، بالاشتراك مع أورييتا راغاتسي).
وبعد أن قال القسم الأكبر ممّا عنده في سوسيولوجيا العالَم الصناعي واستغلال العمّال (سيعود في كتب لاحقة لتناوُل جوانب من المسألة، بالتزامن مع تطوُّر العمل وظهور تقنيات جديدة وكذلك عقليات إدارة واستغلال جديدة)، سينتقل تورين إلى تفكيرٍ أعمّ حول طبيعة المجتمع هذه المرّة، وهو تفكيرٌ تولّد عنده من صدمةٍ بالمجتمع الأميركي الذي اكتشفه بعد حصوله على منحة للدراسة هناك.
خلال هذه الفترة، التي تزامنت مع بداية السبعينيات، سينشر "إنتاج المجتمع" (1973)، والذي عارض فيه مقولة كانت شائعة حول المجتمع بوصفه نظاماً شبه حيويّ، همُّه الأساسي المحافظة على طريقة عمله عبر المحافظة على قواعده وقيَمه. وبدلاً من ذلك، دافع تورين عن نظرة "تأقلمية" ــ إذا صحّ التعبير ــ للمجتمع، باعتباره قادراً على تغيير قواعده ورؤاه بالتوازي مع التغيّرات التي يعايشها.
كما شهدت تلك الفترة نَشْره لأعمال مثل "من أجل علم الاجتماع" (1974)، و"المجتمع اللامرئيّ" (1974)، و"المجتمعات الاعتمادية" (1976)، الذي عاد وتناول فيه الولايات المتّحدة بعد ستّ سنوات من "الجامعة والمجتمع في الولايات المتّحدة".
ولن يقول الراحل كلمته الأخيرة حول المجتمع المعاصر إلّا في عام 2013، مع كتابه البارز "نهاية المجتمعات" (نقله إلى العربية عبد الرحيم حزل)، الذي وثّق وحلّل فيه نهاية شكلٍ من أشكال الاجتماع البشري ــ وخصوصاً في الغرب ــ مع تراجع دور العائلة والمدرسة والمدينة وأدوات الإنتاج الكلاسيكية، ما فتح الباب على "مرحلة ما بعد اجتماعية"، بحسب تعبيره، تتميّز بمطالب أخلاقية أو بمطالب متعلّقة بالحقوق القانونية والإنسانية (مثل النسوية، وحقوق الأقلّيات).
أمّا ثالث جوانب تجربة ألان تورين، وأكثرها شهرةً في تلقّيه العربي، فهو اشتغاله حول مسألتَي الحداثة والنظام السياسي (الديمقراطية، الليبرالية، إلخ)، اللتين كتب حولهما القسم الأكبر من أعماله الأخيرة. وتكفي هنا الإشارة إلى أن آخر كتاب صدر لها كان بعنوان "دفاعاً عن الحداثة" (2018)، والذي بدا أشبه بوصية فكرية ينتقد فيها العقلية الاقتصادية التي باتت تحكم العالم، ويدعو إلى إعادة وضع الإنسانيّ في مركز الاهتمام.