مع إعلان الثورة السورية في 21 تموز عام 1925 ضد الانتداب الفرنسي، حاول البعض استعادة الأحداث الطائفية المؤسفة التي وقت في العام 1860، والانتقام من المسيحيين، بدعوى ولائهم للفرنسيين، وقد انبرت الكاتبة مي زيادة للدفاع عن مسيحيي سورية في صحيفة الأهرام القاهرية، والتأكيد على وطنيتهم وولائهم لبلدهم، مستشهدة على كلامها بأسماء مسيحية ناصبت الانتداب الفرنسي العداء وعلى رأسها فارس بيك الخوري الذي كان يقبع في سجن جزيرة أرواد.
وقد احتفت زيادة أيما احتفال؛ بموقف أمير قبيلة الفضل في الجولان محمود الفاعور الذي نقلت الأنباء أنه أجرى مشاورات واتصالات مع زعماء الجولان ومجدل شمس لحماية المسيحيين من تعديات بعض "الثوار"، وإيواء المهجرين في منازل تعود لقبيلته في القنيطرة ومجدل عنجر في بقاع لبنان، وكانت هذه الأحداث مناسبة للأديبة اللبنانية المقيمة في القاهرة لأن تستذكر رحلة قامت بها إلى دمشق والجولان في شهر أيلول/ سبتمبر عام 1922 بدعوة من الأمير سعيد الجزائري، حفيد الأمير عبد القادر الجزائري.
وبدأت قصة الرحلة، عندما كانت الآنسة مي زيادة تقضي العطلة الصيفية في منتجع صوفر في جبل لبنان، وأتتها رسالة من الأمير سعيد يدعوها مع والديها لزيارة دمشق. وفي ذلك تقول: "كنت أصطاف مع والدي في لبنان، منذ ثلاثة أعوام، وكان الأمير سعيد الجزائري وقرينته الأميرة الجميلة في مقدمة الذين غمرونا بفضلهم ولطفهم. ثم دعانا الأمير سعيد إلى دمشق لزيارة سراي جده الخالد الذكر الأمير عبد القادر الكبير، وزيارة ضريحه قرب ضريح السلطان سليم في الصالحية. لنقصد بعدئذ إلى البادية عند الأمير محمود الفاعور، حيث نرى من معيشة العربان وسذاجة الحياة ما يريحنا قليلاً من جلبة الكازينو في صوفر. كذا قال الأمير سعيد وكذا كان".
وقد ردت زيادة على دعوة الأمير سعيد برسالة مفعمة بالود والاحترام والتقدير للأمير عبد القادر جده الذي بادر إلى حماية المسيحيين إبان أحداث العام 1860، وكتبت ردا على الدعوة: "إن تأخرت في خط كتاب الحمد، فلم أتأخر دقيقة عن تعليل النفس بالتشرف بالاجتماع بك ولو مرة واحدة قبل مغادرة سورية. وأرجو أن أزور الفيحاء في أواخر الشهر الحالي أيلول/ سبتمبر، وأوائل شهر تشرين الأول/ أكتوبر المقبل، فأتبرك عندئذ بلمس جدران أظلت حياة الجزائري الكبير، فخلدها ذكر فضله، وأجثوا عند ذاك الضريح الذي نام فيه الجبار ليستريح. أما الآن فحسبي اغتباطاً أني في حماك على مقربة منك، راجية قبول ما تكنه نفسي من شعائر الامتنان والإجلال".
في قصر الأمير عبد القادر
وانطلقت الأديبة المرهفة مع والدها إلى قرية دمر غربي دمشق، حيث يقع السكن الصيفي للأمير عبد القادر، بالقرب من ضفة نهر بردى، وقد كتبت في وصفه قائلة: "دار الأمير عبد القادر في دمشق تحوي ذكريات ثمينة خالدة المعنى لكل شرقي. وهي فوق ذلك تحفة من الهندسة الشرقية، مفعمة بالنفائس الغنية والذكريات التاريخية. تترنم نوافر المياه في برك المرمر الشفاف في القاعات منها والساحات، وتطل شُرفها على نهر بردى الذي يجتاز حديقتها في سيره إلى المدينة". وتذكر زيادة كيف هبط أحد الأمراء الجزائريين السلم الخشبي من الشرفة التي وقفوا عليها. وعبر الجسر الصغير الملقى فوق النهر إلى الحديقة وعاد إليها بعد دقيقة بطاقة أزهار ورياحين.
وبعد تناول طعام الغداء في تلك الدار العامرة، على مائدة الأمير سعيد، كما تقول، ركبت هي ووالدها معه بسيارته إلى القنيطرة، حيث وجدوا بالصدفة الأمير محمود الفاعور يقود سيارته هو الآخر عائداً إلى مضارب قبيلته. فوصلوا إلى الجولان والشمس جانحة إلى المغيب. وتقول: "كنت مخطئة في توهمي أن سبع ساعات في السيارة على طريق لبنان وسورية، الحافلة يومئذ بالصعاب والغبار، ستحبسني بعدئذ في غرفتي طلباً للراحة حتى ساعة العشاء. لأني ما إن اختفى قرص الشمس واصطبغ الأفق والجبال بالألوان اللوزوردية والبنفسجية حتى شعرت بأن الفيافي تنتظرني وتناديني ولو إلى عتبتها، وترحب بي بتموج سطحها واتساع رحابها. فانطلقت إلى خارج المنزل. وإذا بي بعد قليل أسير في البقعة الآهلة من البيداء، بين الأمير محمود الفاعور والأمير سعيد الجزائري".
ولا تزيد المسافة بين دمشق والقنيطرة عن 50 كيلومتراً، وبين القنيطرة وقرية واسط، حيث يقبع قصر الأمير محمود عن عشرة من الكيلومترات، وهذا يعني أن سرعة السيارة لم تكن تتجاوز 10 كم في الساعة.
الأمير محمود الفاعور
وتصف الأديبة زيادة أمير عرب الفضل بأن حديثه مزيج من التحفظ والبساطة، وتبدي إعجابها بتلك الجزالة البدوية في لهجته وكلامه. وتقول إنها، وبينما هو يجيب عن أسئلتها فيما يتعلق بإحصاء قبيلته، وتفاصيل معيشتها وعاداتها، وعدد المقاتلين من رجاله عند الحاجة، كانت تتطلع إلى نبرات الأمر الهاجعة في صوته، وأنها كانت تتخيل صيحات النزال والهيجاء في الحرب. ويعكس ذلك؛ المخيلة الأدبية التي كانت تتمتع بها زيادة حين أعجبها المكان فوصفته بعبارات أدبية ذات مسحة شاعرية: "على البطحاء التي أوسعها الهجير طوال النهار لفحاً وضراماً، امتدت ظلال الشفق حنونة في نسمات هفافة. وتعالى البدر كاملا على الأفق. وبعث فيض أضوائه فتبدت الكائنات في جلباب السحر، وتنبهت في النفوس رواقد الروعة والخشوع والتعبد".
وتقول إنها سألت الأمير سؤالاً آخر عن حدود أرضه، "فمد ذراعه طليقاً، وأشار إلى مكان بعيد عند موطئ جبل الشيخ البارع الجمال والجلال في تلك الساعة، وقال: إلى هناك". وتضيف: "كانت تلك الإشارة مثيرة جمّ الذكريات والصور، منادية الماضي ليتقدم بالشهادة إلى المستقبل. فقلت: أخبرني يا أمير محمود كم من مرة سرت في هذا الطريق، وفي مثل هذا المساء، تفكر في مهامك وفي مسؤوليتك وفي شؤون القبيلة، وتذكر هنا عدوا تريد أن تهزمه، وصديقا تحب أن تؤيده؟ فابتسم وقال: كثير والله مرات كثيرة. وصمت لحظة ثم استأنف: لن أنسى أني سرت هنا مع الآنسة مي، وأنها ألقت عليّ هذا السؤال".
وتؤكد مي زيادة أنها لن تنسى ذلك المساء، وأنا ستذكر على الدوام أنها سارت في الجولان بين أميرين شرقيين؛ بين زعيم بدوي باسل، وحفيد عبد القادر الجزائري. وتقول: "يا ليلة الخلاء! ما كان أسناك بدراء، وأفيحك سماء، وأبلغك صمتاً ونطقاً، وأنعمك عذوبة وهناءة. المضارب جاثمة كتومة في الليل المنير، إلا أن نار القِرى تشتعل في خيمة الأمير الرحيبة، وقد جلس الضيوف البدو يتناولون طعام العشاء، ويشربون القهوة المعطرة بحب القرنفل". أما مي زيادة ووالدها وغيرهما من الضيوف الحضريين، فقد دعاهما الأمير إلى مائدة إفرنجية فاخرة في قاعة الطعام في قصره. ولكنها كما تقول عبثاً كانت تتلامس الصحون والكؤوس، وتتناسق الشوكات والملاعق، وعبثاً كانت تنسحب الفوطة على ركبتيها، وكأن كل ذلك كان يذكرها بأنها في ضيافة العربان.
في جناح النساء البدويات
بعد العشاء طلب الأمير محمود من مي زيادة أن تتوجه إلى جناح النساء في القصر، وكان ينتظرها عند الباب أحد أبناء الأمير، وكان فتى نحيلاً مسدول الشعر تحت الكوفية والعقال، ويرتدي بذلة الخاكي العسكرية كالأمير محمود، وفي يده مصباح. وعند مدخل القاعة الواسعة استقبلتها سيدة ممتلئة الجسم، صبيحة الوجه، جذابة الملامح والألفاظ، كما تقول، وأدركت للحال انها الأميرة، زوجة الأمير محمود الفاعور، وتلقتها بعدها "فتاة شديدة الشبه لها في سمرتها وملامحها البدوية، وفي عينيها المكحولتين الجارحتين"، ورحبت متعاونة ووالدتها في السير بها إلى المقعد، وإفساح صدر المكان لها. فجلست بينهما على المقعد، بينما جلست القرفصاء على "الشلت" كثيرات من البدويات في زيهن الواحد القاتم، ودار في الزاوية تنقير الهاون لدق البن المحمّص.
وتشير مي زيادة إلى سلاسة حديث الأميرة وسذاجته وبداوته، مؤكدة أنه كانت تبدر منها إشارات دالة على الزعامة والامتياز. ومما نقلته من حديث الأميرة: "يا حلاوة اسم "مي" والله حلو على قلبي مثل اسم بنتي "شمة". اسم عربي من عندنا، ودمك كذلك دم عربي مثل دمنا، والله أحببناك! فابقي عندنا أياما نهنأ بحضورك، ونريك نساء العربان، وكيف يشتغلن ويعشن، جاهلات لا يقرأن في الكتب والجرائد، ولا يتعلمن الكتابة مثلكن في المدن. يرعين القطعان ويحلبن البقر، ويجلبن الماء ويروبن الحليب، ويصنعن صنوف الجبن واللبن، ويطبخن، ويعجنّ ويهيئن اللازم للزوج والضيف". ولدى سؤالها عن البنات تجيب الأميرة: "إنهن في العمل والمتزوجات سواء. وعندما تحمل الواحدة منهن إلى خيمة العريس؛ يضج الحي بالحداء والزغاريد. وتتدلل العروس أياماً. ثم لا تلبث أن تنقلب مدبرة مشتغلة كأمها وكحماتها".
ولكن الأميرة تخبر مي زيادة بأن ابنتها تجيد العربية والفرنسية، وبأنه تدرس على يد مدرسة خاصة تعلمها الفرنسية، وهذه المعلمة من مدينة صفد المجاورة، وكانت جالسة بين النساء. وتقول واصفة زي المعلمة وزي الأميرة وابنتها: "المعلمة ذات الثوب الذي يأبى إلا أن يكون على آخر طرز، هي الزي الشاذ بين ذوات الأردان. والأميرة وابنتها زيهما واحد وأقدر أنه الزي "الرسمي" ارتدتاه لاستقبالي. يتألف من ثوب مهلهل من الحرير الحنطي اللون. وفوقه رداء يهبط إلى منتصف الجسم، وقماشه السميك الحالك يكاد يختفي وراء وشي القصب في طرازة شرقية مألوفة. وشدت كل منهما رأسها وجمعت شعرها المسدول في عقال كعقال الرجال ولكنه مجدول بالحرير والقصب. وتوسط رأس الأميرة فوق العقال تاج صغير من الأحجار الكريمة. وكانت خطوط الوشم ورسومه؛ تحبو على هذه الأيدي المثقلة بالأساور والخواتم حبوها على الوجهين الوسيمين".
وتحاول الأميرة استبقاء مي أربعة أيام أخرى لحضور حفل زفاف لأحد شبان القبيلة، ولكن أديبتنا تعتذر بسبب المشاغل والالتزامات، وتعلن عن سفرها في صبيحة اليوم التالي، ولكنها تبدي رغبتها في حضور ومشاهدة الحفل الذي أقامه الأمير على شرف ضيوفه الرجال. ولكن الأميرة تنبهت لرغبة مي فطلبت من ابنها أن يدعو للدبكة. وتقول مي زيادة: "وفي لحظة انطلقت أصوات النساء بالزغاريد في الخارج، ودوى رصاص متتابع الطلقات، واشتبكت حلقة الرقص على وقع صفق الأكف وتنغيم الربابة. وخيل إليّ أن قلب السكون قد أجفل لهذه المفاجأة".
وتضيف: "خرجت من "الحريم" إلى الساحة المنبسطة أمام الدار لأسمع الأغاني عن كثب، وأبصر الرقص في حلقتين اثنتين إحداهما للنساء، والأخرى للرجال، تتجاوبان وتتعارضان شدواً وحداء، أو هما تأتلفان في حلقة واحدة كبيرة من الرجال والنساء، وقد جال في الوسط راقص فرد، والسيف الملوح في يده يبرق بريقاً مخيفاً في ضوء القمر. والقوم حوله أشباح سوداء تتحرك ببطء وانتظام وتأتي بإشارات الأخيلة والرؤى. والشبابة تئن وتنوح وتستثير، فتبعث في تلك الوحشة المأنوس بعضها، أصداء الشجن والحنين".
على مخدع الجنرال غورو
قاد الأمير محمود مي زيادة ووالدها إلى مخدع النوم، وهو مخدع كبير كما وصفته، وأشرف الأمير بنفسه على تنضيد الوسائد والأغطية، قبل أن يمضي، وهو ما أثار في نفس مي أشد مشاعر الإعجاب، فتساءلت متعجبة: "كيف تنطوي هذه الرجولة الشماء على مثل هذه الوداعة". وتقول: "كان الجنرال غورو قد زار الأمير فاعور قبلنا بزمن غير طويل، إثر عقد الصلح معه بمساعي الأمير سعيد الجزائري، وقيل لي إنه بات ليلته في هذه الغرفة. لذلك أنشأت أتفرج على أثاثها وبسطها الشرقية النفيسة، حتى وقفت أخيراً أمام السرير العالي الرفيع العماد، المجلل بالحرير الوردي، والمطرز بوشي القصب الذي كان لي أضطجع عليه تلك الليلة. ولكن لم يفارقني التخيل أن القائد ترك على هذه الوسائد أثراً من مجد تلك الذراع المقطوعة".
وزيارة الجنرال غورو كانت بهدف صفحة جديدة مع الأمير محمود الذي انتفض على الفرنسيين في العام 1919، وقاد ثورة امتدت إلى جنوبي لبنان والبقاع والحولة، بهدف منع الفرنسيين من السيطرة على هذه المناطق، وتأكيد تبعيتها للحكومة العربية الفيصلية في دمشق، ولكن مع احتلال الفرنسيين للعاصمة السورية وإسقاطهم مملكة فيصل، وصلت جحافلهم إلى الجولان، فلجأ الأمير محمود الفاعور إلى مدينة صفد المجاورة، واتخذ مسكنه في المدينة الجليلية مقراً لمناوئة الفرنسيين، ولكن، بعد أن يئس من عودة الملك فيصل إلى دمشق، قبل بالصلح مع الفرنسيين، وزاره الجنرال غورو في قصره في قرية واسط الجولانية، ولكن الزعيم الوطني أحمد مريود كان قد أعد كميناً للجنرال الفرنسي قرب القنيطرة في حزيران/ يونيو عام 1921 أثناء مروره في القنيطرة، غير أنه نجا ومات سائقه، فتابع الجنرال طريقه إلى قصر الأمير وبات عنده تلك الليلة التي تتحدث عنها مي زيادة.
اليوم الأخير
في صبيحة آخر آيام الرحلة، عمدت الأديبة مي زيادة إلى النافذة تتملى يقظة الخيام، وتدرج النور، وانتصاب جبل الشيخ عند الأفق لؤلؤياً شفافاً، كأنه فجر متجمع في هذا الفجر الشامل، كما قالت، وبعد قليل ودعت ووالدها مضيفهم الأمير محمود، وقالت إنه "نهض باكراً ليحيينا، رغم توعك ملم به منذ أيام، وقد ظهرت دلائله على وجهه". ومضت مي زيادة محملة بالهدايا هي ووالدها بصحبة الأمير سعيد الجزائري عائدين إلى دمشق، ومنها إلى صوفر، فبيروت، حيث ركبت الباخرة عائدة إلى الإسكندرية ومنها إلى القاهرة.