تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها، في محاولة لإضاءة جوانب أخرى من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم 15 كانون الثاني/ يناير ذكرى ميلاد الشاعر التركي (1902 - 1963). لهذه المناسبة، تعيد "العربي الجديد" نشر مقال للشاعر والروائي والناقد الفلسطيني محمد الأسعد، الذي غادر عالمنا منذ أربعة أشهر، صدر في نيسان / إبريل 2020، يقرأ فيه كتاباً - صدرت ترجمته للعربية حديثاً - يتناول فيه لأورهان كمال تجربة السجن المشتركة مع ناظم حكمت.
أورهان كمال.. إنسان اسمه ناظم حكمت
كُتب الكثير عن الشاعر التركي ناظم حكمت والذي اشتهر بأمرين؛ الأول هو أشعاره التي "كانت تتدفق بكلمات قليلة ولكن يمكنها أن تتحدث عن اشياء كثيرة"، وثانيهما هو السنوات الطويلة التي قضاها شاباً سجيناً سياسياً يؤخذ من سجن إلى آخر حتى عام 1951.
ولكن ما يلفت النظر بين هذه وتلك هو مجموعة الكتب أو الكتيّبات التي تحدث أصحابها عن معايشتهم للشاعر في سجنه. والكتاب الصادر في هذا العام عن "منشورات المتوسط" في ميلانو الإيطالية تحت عنوان "ثلاث سنوات ونصف مع ناظم حكمت" (ترجمة أحمد زكريا وملاك أوزدمير) هو الأبرز بين هذه الكتب، لأنه يقدّم صورة أقرب إلى الشاعر الإنسان من صورة الشاعر "الأسطوري" التي اعتاد الكتّاب على رسمها للشاعر، وخاصة الكتّاب والشعراء الذين لم يعرفوه عن قرب، كما هو حال غالبية من تناول سيرته أو ترجم أشعاره إلى العربية، فقدّم للقراء العرب صورة متخيلة لا تمتُّ بصلة إلى الواقعية أو "الواقعية الفعالة" التي كان الشاعر يؤمن بها، وظلّت خيطه الهادي في السجون التي أرهقته والمنفى الذي اضطر إليه بعيداً عن وطنه على حد سواء.
صاحب هذا الكتاب المترجم عن التركية هو الروائي والمسرحي والسينمائي التركي أورهان كمال (1914- 1970)، ومادته هي ذكرياته عن تلك الأيام التي قضاها محكوماً عليه لمدة خمس سنوات في "سجن بورصة" ما بين سَنَتيْ 1938 و1943، بسبب آرائه السياسية، وبتهم إضافية مثل قراءة أعمال الروائي السوفييتي مكسيم غوركي، وأشعار ناظم حكمت، وتحريضه على الثورة.
كان يتخذ أصدقاء له من السجناء البسطاء من مختلف الطبقات
ويصف في هذه الذكريات لقاءه بالشاعر حين جاؤوا به إلى هذا السجن، وكيف أن هذا اللقاء كان بالنسبة له "أشبه بإضاءة نور ذهبيّ في داخله"، إلى درجة أنه دُهش حين أخبر أحد معارفه في السجن بحضور ناظم فلم يأبه هذا بالأمر، لأنه لم يكن يتصوّر أن حضور شاعر على هذا القدر من الشهرة يمكن ألا يبهج أحداً.
ويبدو أن أورهان كمال المندهش، والذي سيتحوّل إلى تلميذ يتعلم الفرنسية على يد الشاعر، ويتعلم مفاهيم جديدة عن الشعر والكتابة بشكل عام، كان يمتلك صورة مغرقة في الخيال عن الشاعر قبل أن يلتقي به. ولكن المعايشة عن قرب جعلته يقول، وهو ينظر إلى أغراضه التي تركها أمام المدخل الخرساني لإدارة السجن: إلى فرشة ملفوفة بالخيش، وحقيبتين من الجلد المدبوغ القديم، ونعلين "إنه إنسان مثلنا، يفكّر في أشياء أخرى غير الشعر، أشياء زائلة، ومن الممكن أن يمتلك فرشة وحقيبة ونعلا!".
وستكون عبارة "إنه مثلنا" المفتاح الذي يقدّم فيه أورهان صورة ناظم الإنسان بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، كشاعر يرى أن لغة الشعر" ينبغي أن يكون المعيار فيها هم الناس، ويجب الانتباه إلى عدم استخدام الكلمات التي يستهجنها الناس في حديثهم اليومي"، ويقول له بعد أن استمع إليه يقرأ شيئاً من شعره العزيز على نفسه: "حسناً.. يا أخي.. ما فائدة هذه الثرثرة والشعوذة؟ سامحني على هذه التعابير، ولكن إذا لم تشعر بتلقائية فلماذا تكتب"؟ ويتخذ أصدقاء له من السجناء البسطاء من مختلف الطبقات، ويستلهم كتاباً عكف على كتابته في تلك السنوات تحت عنوان "مشاهد إنسانية من بلادي" من حياتهم بأن اعتنى بالاستماع إليهم، وتسجيل ما يسمع، ثم لا يكتفي بذلك، بل "يحرص على أن يقرأ ما يكتب لعدد منهم، فيحذف الأشياء التي لا يفهمونها، ويكتب بدلاً منها أشياء واضحة بلا زخرفة لغوية".
ويكشف الكاتب عن جانب من شخصية ناظم حكمت لم يقترب منه أحد ممن اهتم بأن يكتب عن شعره وحياته، ذلك الجانب هو شخصية الرسام الذي مارس الرسم حين كان يتعب من الشعر، بل وعلّمه لبعض السجناء، ومنهم من سيصبح في ما بعد رساماً شعبياً ذائع الصيت مثلما هو حال الرسام بالابان.
ترسم اليوميات ملامح سجناء آخرين إلى جانب الشاعر التركي
ونتبيّن من نقاشه مع أمه التي كانت رسامة أيضاً، كيف كانت "تعتمد على البريق والجاذبية والجمال.. بينما لم يكن ناظم يريد الجمال فقط، بل وجمال القبح أيضاً الذي تحمله البيئة الاجتماعية التي نعيش فيها"، فكان يقول وهو يجلس أمام أمه مع قماش لوحتها وألوانها حين كانت تزوره في سجنه: "بدلاً من رسم نسخة من الطبيعة ينبغي أن نضع شيئاً منّا".
بهذا النحو من تسجيل الذكريات التي نشرها أورهان كمال في عام 1943، بعد خروجه من السجن، توالت يوميات لا تسجل ملامح الشاعر ناظم حكمت فقط، بل وملامح سجناء آخرين، بخطوط بسيطة؛ منهم رمزي الذي أصابه البرد والجوع بالجنون، ومنهم البلقاني المسنّ الذي كان ناظم يستمع إلى حديثه ونصائحه من دون اعتراض، وإبراهيم القروي الذي كان يستمع إليه ويدوّن ما يسمع ثم يقرأه له فيقول هذا: "أستاذ.. ما تكتبه يشبه الواقع أكثر مما أحكي لك". والأبسط من ذلك روايته للكيفية التي تحوّل فيها من كتابة الشعر إلى كتابة الرواية، وأيضاً تحت تأثير هذه المعايشة.
يقول: "كنت أكتب أشعاراً مثل ناظم حكمت، ولكنني لم أستطع عرضها عليه.. كانت أشعاره تتدفق كلمات قليلة لكنها تستطيع الحديث عن أشياء كثيرة، في حين أن أشعاري كانت عاجزة عن ذلك، ومليئة بكلمات زائدة من أولها إلى آخرها". وفي هذا الجو وجّهه ناظم برفق نحو فن الرواية حين قرأ مقدمة رواية له فقال له: "اكتب نثراً.. نثراً". وبعد أن فصّل له ما يعنيه أضاف: "جرّب كتابة القصة القصيرة"، فقال أورهان: "ولكنني لست من المطلعين على قواعدها". وعندها قال ناظم: "هذا أفضل، هكذا لن تتأثر بأي أحد، ستجد شكلك الخاص". وهذا هو ما حدث. وتحوّل أورهان كمال إلى فن كتابة القصة القصيرة والرواية والمسرحية ليصبح واحداً من أشهر كتّاب الرواية في الأدب التركي المعاصر.