تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها، في محاولة لإضاءة جوانب أخرى من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم، الرابع عشر من كانون الأول/ ديسمبر، ذكرى ميلاد المؤرخ والكاتب اللبناني جرجي زيدان (1861 – 1914).
في كتابه "اللغة العربية كائن حي" (1913)، يعبّر جرجي زيدان عن رؤية منفتحة تجاه لغة الضاد من خلال دراسة تاريخية، تثبت تطوّرها من مرحلة إلى أخرى، حيث وُلدت ألفاظ وتراكيب جديدة واستعارت مفردات من لغات أخرى، مبيّناً ضرورة تخليصها من قيود "الجاهلية" من دون أن يعني ذلك قبول ما يأتينا من "الإفرنج" على إطلاقه.
موقف منفتح ومدروس صدر عن المؤرّخ والكاتب اللبناني (1861 – 1914) قبل أكثر من قرن، ويستحق الفحص والاهتمام بمناسبة الاحتفاء بيوم اللغة العربية بعد أربعة أيام، ومن دون مناسبة في ظلّ تراجع تعليمها وإنتاج المعرفة والإبداع بها، وإعادة النظر إلى الواقع بوصفه تعبيراً عن أزمة سياسية واجتماعية.
اهتمام زيدان بواقع لغتنا خصّص له كتابيْن آخرين، "الألفاظ العربية والفلسفة اللغوية" (1889)، و"تاريخ اللغة العربية" (1922)، الذي أعاد "المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات" إصدارهما في مجلّد واحد عام 2017، مشيراً إلى أهميتهما، حيث يتضمّن الأول بحثاً تحليلياً لنشأة العربية وتكوّنها، باعتبار أنها اكتسابية خاضعة لناموس الارتقاء العام.
عبّر عن رؤية منفتحة تجاه لغة الضاد من خلال دراسة تاريخية تثبت تطوّرها الدائم
ويتناول الثاني ألفاظ العربية وتراكيبها، بعد تمام تكونها، باحثًا في ما طرأ عليها من تغيير، مبينًا الأَلفاظ والتراكيب التي دثرت من اللغة بالاستعمال، وما قام مقامها من الأَلفاظ الجديدة، والتراكيب الجديدة، بما تولد فيها، أَو اقتبسته من سواها، مع بيان الأَحوال التي قضت بدثور القديم، وتولُّد الجديد، وأمثلة مما دثر، أَو أهمل، أَو تولد، أَو دخل.
وُلد الراحل في قرية عين عبوق في لبنان، وفي كتاتيبها تعلّم القراءة والكتابة، كما درس اللغتين الفرنسية في مدرسة الشوام، والإنكليزية في مدرسة مسائية، وعمل في تلك الفترة في مهن عدّة، لكنه تمسّك بمواصلة تعليمه، حيث التحق بالكلية السورية ودرس الطب لسنة واحدة، ثم انتقل إلى القاهرة سنة 1883، وهناك عمل محرراً في صحيفة "الزمان"، ثم مترجماً في مكتب المخابرات البريطانية، ورافق الحملة الإنكليزية إلى السودان، قبل أن يعود إلى لبنان عام 1885 حيث تعلّم العبرية والسريانية، ومنها سيعود إلى مصر لينشئ "مطبعة الهلال" سنة 1891، ويصدر مجلة حملت الاسم ذاته، والتي غدت من أهم المطبوعات آنذاك، واجتذبت النخبة العربية للكتابة على صفحاتها.
اهتمّ زيدان بالتاريخ العربي الذي أفرد له عدّة مؤلّفات، منها "العرب قبل الإسلام"، و"تاريخ التمدّن الإسلامي/ خمسة أجزاء"، و"تاريخ مصر الحديث/ جزءان"، و"تاريخ الماسونية العام"، و"تراجم مشاهير الشرق"، وإلى جانب ذلك ألّف اثنتين وعشرين رواية مستمدّة من التاريخ بأسلوب لا يخلو من التشويق، وقد نالت شهرة واسعة في زمنه، وأخذت نصيبها من النقد أيضاً.
ومن أبرز هذه الروايات: "أرمانوسة المصرية" التي تروي دخول عمرو بن العاص إلى مصر، و"الحجاج بن يوسف"، و"فتح الأندلس"، وشارل وعبد الرحمن" التي تروي الفتوح الإسلامية في أوروبا، و"أبو مسلم الخراساني"، و"العباسة أخت الرشيد"، و"الأمين والمأمون"، و"أحمد بن طولون"، و"عبد الرحمن الناصر"، و"صلاح الدين الأيوبي"، و"شجرة الدر"، وغيرها.