استمع إلى الملخص
- الرواية تمزج بين الأجيال والتاريخ التونسي، من الرعي والبداوة إلى الاستعمار الفرنسي وحكم بورقيبة، وتتحول من حكاية إلى تاريخ مع اعتقال الجيلاني بتهمة النازية.
- أسلوب كرعاني يتميز بالمواربة بين الخبر والحكاية، مما يخلق تجربة قراءة ممتعة ومثيرة، حيث تتنقل الرواية بين الواقع والخيال.
يوقّع الكاتب التونسي صحبي كرعاني مقدّمة روايته الأولى "دفاتر الجيلاني ولد حمد" (أطراس للنشر، 2023) بأحرف اسمه الأُولى (ص. ك)، فنشعر أنّه يوعز فيها بأنّ الرواية حقيقية. يجري ذلك على جداول بأسماء الشخصيات، ورسم جغرافي في عين حمد وجوارها. حقيقية الرواية ليست فقط جزءاً منها، لكنّ قراءتها تتردّد بين هذه الحقيقة ومرماها الروائي. لا نشكّ طبعاً في أنّها رواية أصلاً، بل إنّها في صفحاتها الأربعمئة لا تبدو رواية فقط، إذ إنّها أكثر من ذلك تبدو ملحمة شعبية. إنّها هكذا تغريبة مُعاصرة، إذا كان لنا أن نجد لها إرثاً روائياً يُعيدنا إلى الملاحم الشعبية.
للرواية من هذا الإرث الشعبي ذلك الخلط بين السلالات أو بين الأجيال، بذلك القصّ الذي يجري مجرى الأخبار المتواترة، والحكاية المتناقَلة جيلاً بعد جيل. لن نشكّ في أنّ ذلك قريبٌ من التراث الشفوي والمواريث العائلية، بل لا نشكّ في أنّ الراوي يصطنع لنفسه وظيفة الحكّاء، ويكاد يُدرج في الحكاية ما يحمل عناوين تاريخية، بل ما نعرفه تاريخاً. إنّنا هكذا الآن نرتاب في أنّ للمجسّم الجغرافي حقيقته الأكيدة، بل قد يتراءى لنا أنّ للأشخاص أنفسهم، الذين يرِدون في النص، بعضاً من الحقيقة، بل نحن أمام هذه الحقيقة وقد استحالت حكاية أو حكايات، بل إنّها متأسلبة على هذا النحو، إذ هي لا تزعم أنّها حقيقة، إلّا بقدر ما تحوي الحكاية من الحقيقة، أو ما يبقى من الحقيقة فيها بعد أن تغدو حكاية، أو حين تختار لنفسها هذا الأسلوب، وتُقدّمه على أنّه نحوها في استظهار الحقيقة على أنّه حقيقتها الخاصّة.
الجيلاني هو الراوي، لكنّه ليس الرواية، بل نحن نشعر أنّ الرواية تبدأ به انفصالها، بل تحوُّلها إلى تاريخ. لا نفهم، إلّا على طريقة الرواية وغرارها، كيف اعتُقل الجيلاني، وبتهمة قد تجعله غريباً: النازية، التي لا نجد أيّة مقدّمات لها في الرواية، بل لا نفهم كيف نُسبت إليه، وكيف قامت على محض حكاية عارضة. لكن سجن الجيلاني بتهمة كهذه هو بدء تحوُّل الحكاية إلى تاريخ، لكن التاريخ نفسه لن يكون هكذا سوى حكاية، تردّنا إلى اعتبار الديك الواقف فوق الكون الدارج على السيل، رمزاً لبورقيبة.
إنّها الحكاية تتكلّم، والحكاية تُستعاد، حتى حين تكون على شفا التاريخ، أو حين تُحوّله لها جاعلةً منه أسلوبها. هكذا ننتقل مع الجيلاني الحفيد في الرواية، من الرعي والبداوة إلى الاستعمار الفرنسي وقيام حُكم بورقيبة وتعاضداته. التاريخ هكذا لا يكون أكثر من عناوين، النازية والاستعمار والتعاضديات والسجن الباريسي، الذي هرب منه الجيلاني بأسبوعين قبل انتهاء فترة سجنه، والأوراق التي سقطت منه على طريق الهروب، بعد أن كان أمضى سنوات في تحريرها. كلُّ هذا ليس من التاريخ، ولو أنّه يحمل عناوينه. إنّه عند ذلك التاريخ وقد تعنون، لكنّه مع ذلك، ليس سواه. الجيلاني بتهمة النازية، لأنّه روى أحدوثة الجندي الألماني الهارب الذي أحسن للعجوز وقدّم لها ما تأكله.
نجد في النصّ إرثاً روائياً يُعيدنا إلى الملاحم الشعبية
لا نزال هنا في الحكاية، بل إنّ الجيلاني يرويها في المحكمة التي لا يستطيع فيها أن يخرج عن طوره، أن يعود الحكّاء الذي كانه على طول الرواية. يمكننا القول مع ذلك إنّ كرعاني وجد أسلوبه وروايته هكذا. هذا الأسلوب هو اختراعه، ولو أنّه يندرج في عنوان الحكاية. يبقى مع ذلك ابتداعه. إنّ متعة القصّ هي هنا في هذه المواربة بين الخبر والحكاية، بين التاريخ والحكاية. هكذا نقرأ الرواية على طول صفحاتها الأربعمئة، بهذا الشوق الذي يتوالد من ذلك التحوّل، من التردّد بين الحكاية والحقيقة، بل هذا الانزياح الذي يصل إلى أن يكون أسلوباً بذاته. من الخبر إلى الحكاية، من الواقع إلى مقابله الحكائي. إنّنا نجد ملحمة شعبية هكذا، لوناً آخر من ملحمة، ابتداع ملحمة خاصّة.
* شاعر وروائي من لبنان